هناك من عبروا في غيرِ ذكرى، لا إسمٌ يُذكر ولا عملٌ يُستَحضر، صَنعتهم المواقع التي تَصَادَف أن شغلوها ولم يصنعوا من أنفسهم أو منها شيئا، وهناك من تركوا أَثِّرا وإسما وحضورا باقياً، صنعوا المواقع التي بهتت وتآكلت على ما مرت به من سنين وعلى ما مرت عليه من مسئولين، ليعيدوا لها بعضاً من اعتبار.
من بين هؤلاء ممن أظن أنهم أعادوا للموقع حضوره واعتباره ولو إلى حين، هو "سفن كون فون بورغسدورف"، ممثل الاتحاد الاوروبي في فلسطين.
ما يلفت النظر في "سفن" ليس فقط محاولاته الخطيرة في التصالح مع نفسه كرأس للدبلوماسية الاوروبية في فلسطين المحتلة التي تنزف دما والحاضرة في كل أروقة الاتحاد الأوروبي، غالبا، قلقا وفي أحيانٍ قلقا كبيرا أو عميقا وفي أحيان أخرى ضبطا للنفس جلادين وضحية، وليس فقط أيضا تلك المحاولات "شبه السيزيفية" للتوفيق العسير والمُكلِف بين موقف رسمي نفعي "شوزوفريني" يجانب التاريخ في معظمه، وبين موقف شخصي اخلاقي ينحاز للعدالة وحقوق الانسان، بل بين ما يجب ان يكون مقابل ما هو كائن، في مكان يحسب فيه الوقت بعدد الشهداء والمنازل المدمرة ومساحات الأرض المنهوبة وأكواب المياه المسروقة.
تلك المغامرة الشاقة ابقته حاضرا هنا وهناك، في غزة وفي جنين وفي القدس وما بينهم، مُلقيا ما هو مُتَكلِف ورسمي، بروتوكولا كان أو ربطة عنق. وأبقته تلك المغامرة حاضرا أيضا، موقفاً ملفتًا ومثيراً في المكان وفي حضرة ذات الزمان. ربما ذلك كله، قد يكون أعلى كثيرا أو قليلا عن أضعف الايمان ولكنه بالغ الدلالة والرمزية، في وقت أضحى فيه الاقتراب من الفلسطينيين تضامنا او توددا؛ ذو كلفة كبيرة يتجنبها الكثيرون ممن يتسيدون المشهد ويشغلون المواقع. فالصمت، للطامح والساعي إلى "كارير مهني أو سياسي"، في حسابات الربح والخسارة، أقل كلفة من القتل المعنوي في أن يوصم باللاسامية. إن أربعة سنوات أو بعضها، هي عمر إشغال الموقع، يمكن ابتلاعها بكثير او قليل من الماء، فالصمت منجاة، إن أكثرت منه نفع وأن أقللت منه قتل.
سيبقى ما ترك سفن من حضور وما أظهر من مواقف وما قدم من تضامن عملا مختلفا وحاضرا من الصعب القفز فوقه، نأمل أن يتم البناء عليه كنقطة انطلاق للقادم الجديد متمنين له أن يكون ممن يصنعون المواقع ويقولون كلمة الحق في وجه محتل غاصب وفي وجه سياسي وضع الأخلاق جانبا.
شكرا "لسفن" انسانا ودبلوماسيا وسياسيا ولا عزاء للآخرين أفرادا أو مؤسسات في تلك العاصمة الباردة أو في وأخواتها.
*المدير العام-مركز الميزان لحقوق الإنسان