السياسة ليست حسن نوايا وإلا لقادها الطيبون، لكن هؤلاء ليس لهم مكان فيها، وهي ليست دعوات للخير والإصلاح، إنما هي انعكاس للواقع بكل تفاصيله والواقع الأكثر تعقيداً من الاحتفالات والتصريحات التي خدعت المواطن الفلسطيني الذي يراقب منذ سنوات ويحصي عدة مرات الخديعة التي وقع بها من التصريحات المتفائلة قبل أن تصدمه الوقائع.
الذين استسهلوا إنهاء الانقسام يبدو أنهم منفصلون تماماً عن الواقع، والذين اعتادوا على إطلاق تصريحات التفاؤل ارتكبوا جريمة التلاعب بالرأي العام، ولأنه لا أحد يحاسب، تطلق التصريحات بهذا القدر الذي يعبر عن سطحية مطلقيها وضعفهم في قراءة الأزمة الحقيقية.
إنهم يذهبون نحو الشكل بعيداً عن الوقوف عند عمق الانقسام وبعده السياسي، فكل الاتفاقيات التي تمت منذ سنوات كانت اتفاقيات إدارية مثل تشكيل حكومة ورواتب ومعابر وغيرها من قضايا الإدارة، بعيداً عن البرنامج السياسي والذي يشهد طلاقاً بائناً بين برنامج السلطة وبرنامج حركة حماس.
لم تقترب أطراف الأزمة من حوار حقيقي حول البرنامج حتى نقول إننا نقترب من إنهاء الانقسام، وإلا لماذا الفشل حتى اللحظة بالرغم من كل الاتفاقيات الموقعة بين السلطة وحركة حماس؟
إذن في المسألة أبعاد أخرى أكثر أهمية وأشد عمقاً من لقاء بروتوكولي أو تشكيل حكومة بروتوكولية كما حدث في الشاطئ ثم تصطدم هذه الحكومة بطلاق البرامج فتعجز عن التقدم.
الحقيقة، إنه نشأ في قطاع غزة واقع على تضاد تام مع السلطة الوطنية وبرنامجها والتزاماتها والاتفاقيات التي وقعتها وتلك الاتفاقيات التي تشكل هوية السلطة وأساس عملها، بل ويتحدد مدى دعمها المالي وصرف رواتبها بمدى التزامها بتلك التعهدات، وهنا مأزق الرواتب الحقيقي ليس بعدم توفر المال، بل بسبب صدام البرنامج، وبالتالي، فإن الحديث عن المصالحة خارج سياق منظومة السلطة يعني الاستمرار في خداع أنفسنا لنصاب بالإحباط في كل مرة.
والسؤال الصعب هل تعني المصالحة عودة غزة لغلاف السلطة أم لا؟ إن الإجابة على هذا السؤال من قبل حركة حماس، وهي وحدها التي تحدد الفشل أو النجاح في إنهاء الانقسام وإعادة بناء النظام السياسي الذي باتت السلطة أحد أبرز مكوناته، وتلك هي عقدة المصالحة، ودون ذلك يصبح الحديث عن المصالحة حديثاً سطحياً يطلقه سياسيون مستجدون على العمل السياسي أو بعض الطيبين الذين لا يجيدون السياسة.
لن يكون هناك مصالحة دون عودة غزة لغلاف السلطة، والسلطة ليست أفراداً، فقد كان الرئيس عرفات والآن الرئيس أبو مازن وبعده سيأتي آخر، لكن السلطة هي تلك الاتفاقيات، فهل قررت حركة حماس التراجع عن برنامجها لصالح برنامج السلطة حتى نرفع سقف التفاؤل، أو هل قررت السلطة التحرر من الاتفاقيات "وهذا مستحيل في ظل وجود السلطة" لصالح برنامج قريب من حركة حماس؟
حماس لم تغير برنامجها الذي يقوم على الصدام المسلح مع إسرائيل والعمل ليل نهار في حفر الأنفاق وصناعة الصواريخ ..
وهذا تماماً مضاد لبرنامج السلطة، فالسلطة بعد أحداث 2007 أعادت ترتيب الضفة الغربية بما ينسجم مع هويتها.
والأساس في هذا الموضوع هو أن لا سلاح سوى سلاح السلطة، فقد أنهت السلطة الوجود المسلح للفصائل بما فيها كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح العمود الفقري للسلطة، فهل ستقبل السلطة بأن تولي المسؤولية عن قطاع غزة وصرف الرواتب في ظل وجود الأجنحة المسلحة وأهمها كتائب القسام التي تعمل بتضاد تام مع برنامج السلطة وتلك هي العقدة الأبرز.
المشكلة هي أن حركة حماس تبدي قدراً من الرغبة في إنهاء الانقسام ولكنها في الوقت نفسه ترفض على لسان الناطق باسمها السيد سامي أبو زهري أن تتشكل الحكومة العتيدة على أساس برنامج منظمة التحرير، فكيف يكون ذلك؟
فالمصالحة داخل السلطة يعني أن تكون على أساس برنامج السلطة وإلا فإن ذلك استكمال للحالة السطحية التي ميزت النظام السياسي الفلسطيني في سنواته الأخيرة بعيداً عن القراءات أو التصريحات التي تستند إلى فكر سياسي حقيقي، فهل يمكن التفاهم على بناء السلطة خارج برنامج السلطة؟
ومن هنا يمكن فهم رحلة الفشل الطويلة في تاريخ المصالحة، وما رافقها من حوارات بعيدة عن المضمون واتفاقيات عديدة، فليس هناك شعب في التاريخ وقع مع نفسه اتفاقيات بهذا القدر: "مكة 2007"، "القاهرة 2011"، "الدوحة 2012"، "الشاطئ 2014"، فهل كان كل هذا الفشل في تطبيقها مجرد مصادفات، أم أن الأمر أعقد من اتفاقيات مبنية على حسن النوايا والهروب من مأزق لحظي وليس مأزق القضية الإستراتيجي الذي تعمق بفعل الانقسام وعجز الفلسطينيين عن قدرة ممارسة السياسة وقصورهم في فهمها.
ليست هناك مقدمات سياسية يمكن أن نقول إنها أنضجت توافقاً سياسياً يمكن البناء عليه، فقد ذهبت الأطراف للدوحة محملة بالنوايا فقط كما كل مرة، ولذا فإن غياب المقدمات الحقيقية لن تنتج أكثر مما أنتجته الاتفاقيات السابقة، وأحياناً يقال ذهبت الوفود لا للتفاوض بل للاتفاق على تطبيق الاتفاقيات التي وقعتها، أي ليس هناك جديد يدل على أن الأطراف استخلصت العبر من التجارب السابقة حتى نقول إن هناك ما هو مختلف، المقدمات تشبه النهايات.
في أفضل أحوالها ستنتج جولة الدوحة حكومة وحدة وطنية ولكن تلك الحكومة ستصطدم تماماً بما اصطدمت به حكومة الوفاق الوطني.
إنه الواقع الذي تهربت الأطراف من نقاشه فالاستعصاء أكبر من شكل الحل وحتى اللحظة تبدو مستحيلات المصالحة أكبر بكثير من ممكنات الانقسام، خاصة أن الإسرائيلي الذي أشرف على هندسة الواقع الفلسطيني لديه مشروع منذ ثلث قرن من ثمانينات القرن الماضي، وهو فصل غزة، فهل يمكن له أن يُسلِّم بانهيار مشروعه قيد التحقق؟
نحن نساعد على ذلك .. الطريق معبد بالنوايا الحسنة ولكن حفر السياسة أكبر بكثير من السير عليها..!