حظيت زيارة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر إلى الصين، الأسبوع الماضي، باهتمام كبير من قبل الرئيس شي جينبيغ الذي تغزّل بهذه الصداقة القديمة باعتبار الأول عرّاب تطبيع العلاقات بين البلدين أوائل سبعينيات القرن الماضي.
كيسنجر الذي يبلغ عمره المائة عام والذي زار بكين حوالي مائة مرة منذ 1971 عام زيارته الأولى السرية لهذا البلد، التقى وزير الخارجية الصيني ووزير الدفاع لي شانغ فو المدرج على قائمة العقوبات الأميركية والممنوع من دخول الأخيرة بسبب موافقته على شراء أسلحة روسية متطورة.
أن يلتقي وزير الخارجية الأميركي الأسبق كبار المسؤولين الصينيين في زيارة تعتبر شخصية ولا تحمل الطابع الرسمي، فثمة دلالات على دوافعها ومضامينها وتوقيتها والرسائل المتبادلة من قبل الطرفين الأميركي والصيني.
صحيح أن كيسنجر لا يحمل ألقاباً رسمية ولم يُدفع في العلن من قبل أي مؤسسة أميركية رسمية للذهاب إلى الصين، ومن الصعب وضع هذه الزيارة في إطار الاجتهاد الشخصي لإذابة كتلة الثلج الكبيرة بين واشنطن وبكين، سوى الجزم بأنه حصل على ضوء أخضر أميركي رسمي ومن تحت الطاولة لفهم ممكنات احتواء الصين أميركياً.
قبل أقل من أسبوعين على هذه الرحلة، زارت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين الصين، وقبلها بأسبوعين تقريباً، زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن نفس البلد والتقى نظيره الصيني، وتناقلت العديد من وسائل الإعلام أسباب ودوافع الزيارتين واعتبرتها محاولة أميركية لترطيب الأجواء السياسية مع بكين، غير أنها لم تحقق أي مكاسب وتحولت إلى مناسبة لالتقاط الصور لا أكثر.
كذلك تزامنت زيارة كيسنجر مع وصول المبعوث الأميركي للتغير المناخي جون كيري إلى بكين ولقائه مسؤولين صينيين بهدف التعاون بين أكبر اقتصادين في العالم وأكبر المتسببين في انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
ربما تحتاج واشنطن إلى شخص من العيار الثقيل بمستوى كيسنجر ويحظى باحترام الصينيين لهذه الزيارة، خصوصاً أن العديد من قنوات التواصل الدبلوماسي والعسكري مقطوعة بين البلدين، ويبدو أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق حصل على إجابات مهمة من الصين.
كيسنجر حمل معه الموقف الرسمي الصيني من العلاقة مع الولايات المتحدة، إذ في حين اعتبر الرئيس شي جينبيغ أن بلاده وواشنطن على مفترق طرق وأن العالم يشهد تحولات كبيرة ويحق لكل طرف اختيار ماهية سلوكه في المشهد الدولي، غير أنه رحّب بفكرة الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون البيني.
أما وزير الخارجية الصيني وانغ يي فقد بدا واضحاً إزاء مسألة انتهاء عصر الهيمنة الأميركية على الدول، إذ قال بصراحة لكيسنجر، إن محاولة تغيير الصين أمر مستحيل تماماً ولا يمكن احتواؤها وإخضاعها تحت المظلة الأميركية.
قد تكون زيارة كيسنجر هذه وغيرها من الزيارات الأميركية، محاولة تكتيكية لإبعاد بكين عن موسكو ومنعها من تقديم مساعدات عسكرية أو حتى شراء الأسلحة الروسية ومحاولة حصار الأخيرة وعزلها دولياً نحو كسب المعركة في حربها ضد أوكرانيا.
كذلك قد تأتي الزيارة لتلميع صورة الحزب الديمقراطي الأميركي والرئيس الحالي جو بايدن الذي يسعى بقوة لإعادة انتخابه مرة ثانية نهاية العام المقبل، إذ تحاول واشنطن هذه الأيام معالجة التضخم الاقتصادي الذي وصل إلى معدلات قياسية بسبب مجموعة عوامل، من بينها تأثير "كورونا" وتصاعد الحرب التجارية وزيادة التعريفات على الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة.
النتيجة أن زيارة كيسنجر قد لا تكون مؤثرة على صانع القرار الأميركي الذي حسم أمره في الأساس باتجاه منع الصين من امتلاك التقنيات والخبرات والإمكانيات التي تجعلها في المقعد الأول، وكل ما تفعله واشنطن من محاولات لاحتواء الصين هو شراء للوقت.
بالتأكيد، ستواصل الولايات المتحدة التدخل في ملف تايوان بين الوقت والآخر لاختبار صبر الصين، وستزيد نشاطاتها أيضاً في بحر الصين الجنوبي، وستتواصل حدة الحرب التجارية خصوصاً في التقنيات الحديثة وأشباه الموصلات.
ربما قد تهدأ موجة الغضب والتنافس بين البلدين في مرحلة ما، لكن لن تتسامح الولايات المتحدة وتتقبل فكرة أن تكون القوة الثانية في سلم النظام الدولي، لذلك من غير المستبعد أن يحدث للصين يوماً ما كما يحدث حالياً مع روسيا وأوكرانيا.
لن تغامر واشنطن في حرب مباشرة مع بكين، بل إنها ستخلق عدواً للأخيرة حتى تناطحه ويستنزف قواها، بينما تدير الولايات المتحدة الحرب من بعيد وتراقب مآلاتها، وبحر الصين الجنوبي والدول المطلة ليست بمنأى عن صراع من هذا النوع.