كما في كل عام تثير نتائج الثانوية العامة (التوجيهي)، والاحتفالات المصاحبة لها، الكثير من النقاش في انعكاس مستمر لأهميتها كجزء من الحياة العامة، وكمفصل مركزي في حياة الكثيرين، سواء الطالبات والطلاب المتقدمون لها، أو عائلاتهم، وبالطبع لاستمرار الحياة الأكاديمية في الجامعات والمعاهد.
وربما لا توجد مناسبة سنوية أكثر إثارة للاهتمام في الشارع الفلسطيني من لحظة إعلان نتائج «التوجيهي»، وهي مناسبة تحظى بالكثير من الاهتمام وتثير النقاش والجدل، سواء حول النتائج نفسها من جهة نسبة النجاح ونسبة الرسوب، أو من جهة الأحداث المصاحبة للاحتفالات من مظاهر اجتماعية مختلفة، وما قد يترتب على بعض هذه الاحتفالات من مشاكل أو توتر.
وربما الأهم النقاش حول المرحلة السابقة لإعلان النتائج، أي طبيعة الثانوية العامة نفسها. وربما يشير الاسم الشعبي لامتحانات الثانوية نفسها إلى موطن تلك الأهمية التي تحظى بها هذه الامتحانات من حيث أنها «توجيهي»، في إشارة إلى الوجاهة أو الصدارة، فهذه الامتحانات هي الموجه أو وجاهة ما يقوم به الطالب في حياته المستقبلية.
وفي الحقيقة يمكن للمرء أن يكون أفضل طالب أو طالبة في المدرسة طوال السنوات والمراحل المختلفة التي تسبق تقدمه لامتحان «التوجيهي»، ويدرس لاثنتي عشرة سنة ثم يرسب أو لا يتوفق في الامتحانات النهائية للثانوية فيصبح فاشلاً، إذ لا يبدو كل ما سبق مهماً في مسيرته التعليمية اللاحقة. وهذا موطن الخلل ربما.
عموماً، هذا موضع نقاش يجب أن يظل مفتوحاً من أجل البحث عن سبل تطوير الحياة التعليمية في البلاد، حتى لا نظل نواجه نفس المشاكل والأزمات دون إيجاد الحلول الملائمة. بالطبع فإن امتحانات الثانوية العامة تواجه الكثير من المشاكل والأزمات، التي هي في جوهرها من طبيعة الامتحانات نفسها. فأن يتم وضع كل قدرات الطالب على مدار اثنتي عشرة سنة على المحك خلال ساعات امتحان قليلة، دون أدنى اعتبار لكل ما قدمه قبل ذلك من جهد في المراحل المختلفة، هو أمر بحاجة لمراجعة. إذ يظل هذا جوهر كل منتقدي امتحانات الثانوية العامة الذين يرون فيما يحدث ظلماً وعدم نجاعة في قياس قدرات الطالب. فالطالب الذي يدرس سنوات وسنوات ويطور من قدراته في مناحي العلوم والمباحث المختلفة، ويكون لديه سجل حافل بالعطاء والعلامات المشرفة، يجد نفسه فجأة تحت ضغط اللحظة المسماة «التوجيهي»، وعليه أن يثبت أنه قادر على «الفوز» بضربة واحدة بصرف النظر عن حالته النفسية أو الجسدية. فلو تعرض لوعكة صحية ما أصابته فجأة، مثلاً شعر بالدوار والدوخة لحظة الامتحان وخانه التركيز، ولم يتمكن من تجميع قوته الذهنية المناسبة من أجل تذكر المعلومات التي حفظها أو فهمها، فإنه في هذه اللحظة يكون قد خسر كل السنوات السابقة، وذهب كل جهده السابق الذي مكّنه من الوصول إلى مقاعد الامتحان هباء منثوراً.
سيظل هذا النقاش في جوهر أي بحث عن مستقبل «التوجيهي»، وهو نقاش يحمل أبعاداً تربوية وأخلاقية وتعليمية، لأنه يعني البحث عن الحفاظ على جهود الطلاب وتقدير ما يقومون به، وتسليط الضوء على إبداعهم الحقيقي الذي هو في جوهر بوصلة المستقبل الذي ينشدونه، إذ ليس مطلوباً من كل طالب أن يكون مجتهداً في كل المواد والمباحث بنفس القدر، كما ليس مطلوباً من كل الطلاب أن يكونوا سواسية في كل وعيهم ومدركاتهم. فثمة من يجد نفسه في العلوم فقط ولا شيء آخر. هذا لا يعني ألا يكون الطالب على دراية عامة ببعض المباحث والمواد الأخرى، خاصة تلك التي تتعلق بثقافته الوطنية وهويته كلغته ومعارفه الوطنية.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن إعادة تصميم التوجهات العامة للثانوية العامة بحاجة للكثير من الجرأة في الإجابة عن الأسئلة حول طبيعة هذه الامتحانات وحول ما يراد من ورائها. القصة أن الطالب لا يكون في سباق مع الآخرين، وهي ليست مهمة انتحارية عليه أن ينجو منها. إنها مجرد امتحان آخر، ربما هو امتحان على عتبة مرحلة جديدة، وهو بالتالي مثله مثل كل خطوة مختلفة يقوم بها الإنسان بحاجة لجهد جديد، لكنها ليست نهاية الكون.
عندنا تبدو تلك الامتحانات نهاية الكون، وتبدو كأنها عملية خاصة لا خيار آخر لمن يقوم بها إلا النجاة، والنجاة تعني أن ينجح بأي ثمن بالحفظ أو بالفهم أو بكليهما.
هذا النقاش لا يقترح بالطبع شطب امتحانات «التوجيهي» أو إلغاءها أو البحث عن أشكال أخرى من فحص قدرات الطلاب، بل البحث عن تطويرها وتحسينها بما يكفل المزيد من الإنصاف الغائب للكثير من الطلاب الذين يجدون أنفسهم فجأة فاشلين ومنبوذين، ويتم لومهم على أخطاء ربما لم يقترفوها وفشل لم يكن بيدهم. تطوير يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المهام الموكلة للامتحان وما يرتبط به وما يأتي بعده، خاصة في المرحلة الجامعية ونوعية التعليم الجامعي، حيث يجب تشجيع التعليم المهني من أجل تطوير اقتصاد مستقبلي قائم على حاجات المجتمع وتوجهات سوق العمل. فليس من المعقول أن يصبح كل الشعب أطباء لأن ثمة قيمة اجتماعية ارتبطت في أذهان الناس بالطبيب والمهندس، وهي قيمة مستحقة في كل الأحوال.
كما لا يجب أن يغيب عن بالنا أن هذه الامتحانات تشكل جزءاً من ذاكرة الناس ووعيهم، وباتت طقوساً لا يمكن التنازل عنها. وربما التفاصيل الصغيرة التي يعج بها يوم إعلان النتائج والأيام السابقة للامتحانات ذاتها التي يحفظها كل منا، والتي مثلاً تصبح إقامة حفلات الزواج العلنية في الشوارع مثلاً خلالها ممنوعة، كل هذه تقترح أن «موسم التوجيهي» جزء من ثقافتنا العامة. ونريد في أي توجهات لتطوير طبيعة الامتحان ألا تمس طقوسه وأهميته في حياتنا؛ لأننا نريد أن نواصل الاحتفال ونواصل التوتر والنقاش؛ لأن كل هذه أمور صحية.