لحظة فارقة وعلامتان...!!

images.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 


لماذا أيّد كونديرا إسرائيل؟ كيف نفسّر التأييد؟ وما موقفنا من فعل التأييد وصاحبه؟ هذه أسئلة متعددة الطبقات ومعقدة، بالتأكيد، لا تحتمل التبسيط، ولن تكون مفهومة دون البحث عمّا في التأييد من تحيّزات، وما يفسرها في التاريخ الأوروبي نفسه من ناحية، وحياة كونديرا وأعماله الروائية من ناحية ثانية.
ونزعم أن بحثاً كهذا سيمكننا لا من تشخيص حالة كونديرا وحسب، بل وتفسير انحياز كتّاب الغرب ومثقفيه وفنانيه، بشكل عام (وحتى وقت قريب) إلى الدولة الإسرائيلية، أيضاً.
وينبغي، بطبيعة الحال، أن نفعل هذا بعيداً عن تهم جاهزة، ومريحة فعلاً، كالمركزية الأوروبية، والإسلاموفوبيا (ونظريات المؤامرة) التي أصابنا اعتناقها، وتبنيها، بالكسل العقلي، وألحق بنا من الضرر أكثر مما أفادنا في فهم حقيقة ما نتكلّم عنه، سواء لنقده أو نقضه والرد عليه، ناهيك عن محاولة إقناع الآخرين بوجهة نظر مغايرة.
مهما يكن من أمر، فلنتقدّم انطلاقاً من فرضية أن معنى أن تكون مثقفاً غربياً، أو عربياً، يستدعي مزيجاً من الرموز الثقافية، والذاكرة التاريخية، والتراكيب اللغوية والشحنة العاطفية، التي "يرضعها" الناس مع الحليب، إضافة إلى ما تفعل بهم الثقافة السائدة، وأنظمة التعليم. لذا، ثمة لحظة بعينها لا ينبغي تجاهلها:
شهدت فرنسا أواخر القرن التاسع عشر لحظة التقت عندها تواريخ وأفكار ولدت وأسهمت في صناعة القرن نفسه، وتفرعت عندها تواريخ وأفكار وُلدت وأسهمت في صناعة قرن لاحق. هي لحظة أوروبية خالصة في الحالتين، ولكن تداعياتها العاجلة والآجلة تركت أثراً، لن تمحوه الأيام، في كل مكان آخر من العالم، بما فيه، وعلى رأسه، آسيا الغربية، حيث بلادنا فلسطين.
المقصود ما يمكن تسميته بلحظة درايفوس، ضابط المدفعية في الجيش الفرنسي، الذي حوكم وأُدين بتهمة التجسس لصالح الألمان، وثبت في تحقيقات ومحاكمة لاحقة أن يهوديته كانت سبباً في تلفيق التهمة، وتبرير الإدانة. هذا هو الهيكل العظمى للحظة المعنية. وقد نجم عنها حدثان الأوّل معروف على نطاق واسع، والثاني، الذي لا يقل عنه أهمية، معروف لأصحاب الاختصاص.
الأوّل هو ما تركت محاكمة درايفوس من أثر سلبي على صحافي نمساوي، وكاتب مسرحيات متوسط القيمة، يُدعى ثيودور هرتسل، وقادته إلى المطالبة بحل المسألة اليهودية في دولة لليهود لا عن طريق الاندماج في مجتمعات أوروبية يعيش اليهود بين ظهرانيها. بقية القصة معروفة، مع التذكير بأن تاريخ الصهيونية أعقد وأبعد من هذا بكثير. وهذا ليس موضوعنا الآن.
أما الثاني فيتمثل في مقالة كتبها إميل زولا بعنوان "إني أتهم" في سياق حملة واسعة للتنديد بالتهمة الظالمة، ومساندة درايفوس، وفضح التحيّزات العنصرية لبيروقراطية الدولة، وملفقي التهمة الظالمة.
وشاءت الظروف، آنذاك، أن يكون زولا ممثلاً لأوساط اجتماعية وسياسية جمهورية وراديكالية، بينما كان المشككون في ولاء درايفوس، للدولة والأمة الفرنسيتين، يمثلون قوى اجتماعية وسياسية رجعية ومحافظة.
وبناء على ما تقدّم (في لحظة الصدام بين ميول راديكالية وجمهورية من ناحية، وقوى رجعية ومحافظة في نخبة الحكم وخارجه من ناحية ثانية، وفي زمن نشأة الصحافة والروايات المسلسلة، والحاضرة المدينية الكبرى) وُلدت ظاهرة المثقف بالمعنى الحديث للكلمة، بوصفه صاحب رأس المال الرمزي المُعلمن (خلافاً لرجل الدين، وكاتب العدل، وبيروقراطية السلالات الأوروبية الحاكمة) الذي تطوّع للتعبير عن، وحماية، القيم.
هذا ما يُختزل، عادة، في عبارة شائعة عن صاحب "كلمة الحق في حضرة سلطان جائر" حسب التعبير المتداول في العربية وآدابها السلطانية (السياسية). وهو تعبير مضلل، على أي حال، ولكنه يفي بالغرض.
وهذا، أيضاً، ليس موضوعنا الآن. فالمهم أن محاكمة درايفوس، ومقالة زولا في صميم بنية وماهية التاريخ الأوروبي في الأزمنة الحديثة. لكليهما تداعيات سبقت الأمرين بقرون، وفي كليهما ما يمثل نافذة يطل منها الأوروبيون على تواريخهم، وعلى أفضل وأسوأ ما فيها، وعلى ما نجم عنها في القرن العشرين، وحتى يوم الناس هذا.
المهم، وفي عجالة، أن العملية التاريخية لانعتاق اليهود، (أي منحهم حقوقاً متساوية في المجتمعات الأوروبية) لن تكون مفهومة دون العودة إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وإلى الثورة الفرنسية في أواخر القرن المذكور، ودعوتها الراديكالية إلى الحرية والإخاء والمساواة، التي نقلتها الحروب النابليونية إلى كل مكان آخر في العالم.
وبالقدر نفسه، لن تكون ولادة المثقف، بالمعنى الحديث للكلمة، مفهومة في معزل عن عصر التنوير ورموزه الثقافية، وأفكاره التي قوّضت أنظمة الحكم الإلهي، وأطاحت بسلطة الإكليروس.
ومع هذا كله في الذهن، نعود إلى لحظة درايفوس، إلى حدثين مركزيين نجما عنها، ولكن في سياق مختلف هذا المرّة، أي من حيث العلاقة العضوية بين الحدثين المذكورين وإنشاء الدولة القومية الحديثة في النسق السياسي والثقافي الأوروبيين. فقد شهد القرن التاسع عشر، وعلى أكثر من صعيد، وبقدر ما يتعلّق الأمر بفكرة الدولة القومية على نحو خاص، انقلابات مضادة لأفكار كالعدمية القومية، والهيومانيزم الأوروبي، وكلاهما من أبرز خصائص عصر التنوير.
لم تحتمل الدولة القومية فكرة التعددية اللغوية والعرقية والثقافية والدينية، التي وسمت الإمبراطوريات التاريخية الكبرى متعددة القوميات. نعثر في هذه الحقيقة على الجانبين المظلم والمشرق للدولة القومية الحديثة، التي اجتهدت في الصهر الثقافي والعرقي والديني واللغوي للخاضعين لحكمها، واعترفت لهم في الوقت نفسه بحقوق متساوية أمام القانون.
في سياق كهذا ظهرت الأقليات، بالمعنى الحديث للكلمة، وكذلك العنصرية والتمييز.
كانت النيّة اختزال هذا العرض في معالجة واحدة، ولكن يبدو أننا سنحتاج معالجة لاحقة، أيضاً.