نشر معهد دراسات الأمن قبل 4 أشهر تحذيراً إستراتيجياً استثنائياً فصّل ما يمكن أن يحدث في حال استمرار الدفع قُدماً بالإصلاحات القضائية، وتعاظمت الاحتجاجات نتيجة لذلك. ومع الأسف، حدث جزء كبير ممّا حذّرنا منه، وتحوّل الضرر في مجال الأمن القومي الإسرائيلي إلى واق: الاضطرابات الكبيرة جداً التي يمر بها الجيش، التي أدّت إلى زعزعة الأسس التي يقوم عليها "جيش الشعب"، وتراجع الردع في مواجهة أعدائنا، وزعزعة العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ضعف الاقتصاد، وبصورة خاصة التكنولوجيا عالية الدقة، وتعميق الفجوات والانقسامات داخل المجتمع، وبالتالي، وإضعاف حصانتنا القومية عموماً. هذه الأضرار ستتعاظم كثيراً إذا قام أحد الأطراف بحسم الصراع ضد الطرف الآخر، ولذلك فإن المخرج الوحيد هو وقف فوري وكامل للتغييرات القضائية، وبالتالي وقف الاحتجاجات، والبدء بمسار سياسي قيادي يعكس إرادة أكثرية الشعب: حوار حقيقي بشأن الأسس الدستورية لدولة إسرائيل، وفي الوقت نفسه تحويل التركيز وأغلبية الجهود والموارد الحكومية لمواجهة الأزمات الحارقة التي يواجهها الأمن القومي والمجتمع والاقتصاد.
مميزات الأزمة الداخلية
إن الأزمة الداخلية الإسرائيلية، التي اندلعت عقب المبادرة الحكومية للقيام بتغييرات قضائية، هي الأزمة الأخطر التي عاشتها الدولة منذ قيامها. ومنذ وقت طويل لم تعُد الأزمة محصورة فقط في الخلافات القضائية، بل أيضاً امتدت إلى مناطق أوسع وأكثر عمقاً، وذلك بسبب دمج الأزمة السياسية في الأزمة القيادية المستمرة منذ 4 أعوام، والأزمة الاجتماعية العميقة المستمرة بصور متعددة منذ عشرات السنين. شكّلت المبادرة القضائية المحفّز لاندلاع الأزمة متعددة الأبعاد من دون سابق إنذار، والتي تتناول قضايا أساسية لها علاقة بشكل الدولة وهويتها وإدارتها. ويحدث هذا خلال تدهور سريع نحو المواجهة بين نُخب قديمة ضد أُخرى جديدة، بشأن بنية القوى السياسية في إسرائيل وتوازناتها بين القوة الرسمية داخل البرلمان والقوى خارج البرلمان، والتي تستند بصورة خاصة إلى الاحتجاجات الجماهيرية ذات الأبعاد الكثيرة.
حتى الآن، نجح الصراع بين المعسكرات المتقاتلة في الابتعاد عن العنف الجسدي، على الرغم من العنف الكلامي المتطرّف الذي يُرافق الأزمة ويجعلها أكثر خطورة كلما استمر. كذلك، فإن الشرطة تعالج الأحداث حتى الآن بطريقة معقولة، وهذه نقطة ضوء مهمة. على الرغم من ذلك، فإن إمكان التدهور لا يزال موجوداً. لا يجب أبداً استبعاد إمكان اندلاع حالات عنف محلي أو عنف واسع النطاق. وهناك أيضاً من يطرح إمكان اندلاع حرب أهلية، لا سمح الله، ويجب القيام بكل ما هو ممكن لمنع هذا السيناريو.
الأزمة المستمرة تفرض تحديات كبيرة على استقرار الدولة والمكوّنات الحيوية لإدارة الأمن القومي وحفظه. نتحدث عن ضرر فعلي صعب قد لحق فعلاً بالحصانة الاجتماعية في إسرائيل. توجد لهذا تداعيات صعبة على قدرة إسرائيل على التعامل مع اضطرابات متعددة، سواء أكانت خارجية أم داخلية، وطبيعية أم من صنع الإنسان. هذه الأضرار تصعّب من أداء المنظومات المتعددة التي تدير الدولة فعلاً، ولها تأثيرها أيضاً في عملية النهوض المطلوبة بعد الاضطرابات المتوقّعة. في الوضع الحالي، إن السؤال المطروح هو: "هل ستستطيع إسرائيل أن تدير نفسها بـصورة "طبيعية" طوال الأزمة؟ (على افتراض أنها يمكن أن تمتد لوقت أطول)"، وأكثر من ذلك: "هل لديها القدرة على إنهاء الأزمة؟"، و"هل ستبقى لديها القوة، بعد نهاية الأزمة، للنهوض منها بصورة معقولة أو حتى النمو؟"
تتميز إسرائيل منذ عشرات السنين بأنها دولة غير متجانسة، ومنقسمة ومتعددة الأقطاب. دفعت المبادرة القضائية إلى تدمير هذه المكونات، الأمر الذي يشكل تهديداً وجودياً للحصانة القومية، والتضامن الضروري الذي يشكّل أساساً للقيام بالمهمات الوظيفية في حدها الأدنى. تطوّرت الأزمة المستمرة، ولا يمكن السيطرة عليها بالكامل، ووصلت إلى حد باتت فيه كارثة بحد ذاتها، ويجب القيام بكل ما يمكن لوقفها.
الضرر الذي لحق بكفاءة الجيش والمنظومات الأُخرى
تحوّلت الخدمة العسكرية إلى خط المواجهة في الأزمة الداخلية الإسرائيلية خلال الأشهر الماضية. هذا الاتجاه يمكن أن يستمر ويتفاقم في حال كانت هُناك عملية تشريع لمخطّط التجنيد خلال فترة عمل الكنيست بعد العودة من العطلة، إذ سيكون هُناك للمرة الأولى قانون يعفي "الحريديم" من الخدمة في صفوف أجهزة الأمن. لقد دفع المسار التشريعي حتى الآن آلاف الجنود في جيش الاحتياط، ممن لهم وظائف حيوية، إلى إعلان وقف تطوّعهم في الخدمة، ويمكن لعملية التشريع المقبلة أن تلحق الضرر الشديد بمنظومة الاحتياط (انظر إلى التفصيلات لاحقاً)، وبعملية التجنيد لخدمة طويلة والبقاء في الجيش، كما يمكن أن تدفع إلى خطوات تُهدّد وجود "جيش الشعب".
يمكن القول إنه، وفي المدى المنظور، هناك ضرر في كفاءة المنظومات الحيوية لسلاح الجو، والاستخبارات، والعمليات الخاصة في وحدات النُخبة. وهذا في الوقت الذي يزداد فيه خطر المواجهة متعدّدة الجبهات على إسرائيل، إذ يرى أعداء إسرائيل في جميع الجبهات أنها ضعيفة داخلياً، وهو ما يعزّز ثقتهم بنفسهم، والحكومة لا تتعامل أبداً مع المشكلات الأساسية، وضِمنها تلك المهمة لتقوية الجيش. وإن حدوث أزمة اقتصادية واجتماعية سيصعّب أكثر على حل هذه المشكلات.
إن هيئة الأركان في الجيش لا تستطيع التعامل مع هذه المشكلات التي يقع أغلبها في المجال المدني الواضح، كما أنها لا تحصل على الدعم، حتى الآن، من المستوى السياسي أو الإصغاء حتى إلى التحذيرات التي تصدر عن قائد هيئة الأركان والجنرالات. حتى لو التزم جنود الاحتياط في وقت الطوارئ، فإنه لن يكون من الممكن إصلاح الضرر الذي لحق بالكفاءة والتماسك في الوحدات والشرعية الضرورية للعملية.
لقد ازدادت التهديدات الأمنية على إسرائيل في الآونة الأخيرة؛ فبدايةً، إن التهديد الإيراني هو الأكبر، والتوتر في الشمال كبير، كما أن "حزب الله" يتحدى إسرائيل، حتى إنه يستفزها، وكذلك الأمر في الضفة الغربية و"وسط" إسرائيل؛ فإن العمليات تعود من جهة والحملات العسكرية أيضاً. والجيش غارق حتى رقبته بالعمليات العسكرية، وهو ما يلحق الضرر بالتدريبات في الوحدات البرّية، ومن هنا أيضاً يلحق الضرر بالكفاءة.
ما يحدث للجيش بسبب الأزمة السياسية - الاجتماعية ينعكس أيضاً في المنظومات الأمنية الأُخرى، بحسب مهامها وطرق إدارتها. يدور الحديث عن "الشاباك" و"الموساد" ولجنة الطاقة الذرية، إذ إن عملهم الحيوي، في أفضل الأحوال، يتأثر بالتشتت وانصراف تركيز الإدارة والوحدات المتعددة عن مهامها العملياتية.
وفي مقابل هذا كله، فإن الشرطة الإسرائيلية تواجه تحدّيات كبيرة في الأشهر الماضية. أصلاً، تتميز الشرطة بضعفها العملياتي في المهام العادية والطوارئ أيضاً. والمثال الأصعب والخاص يتعلّق بالتعامل مع الجريمة والعنف في المجتمع العربي، اللذَين يتفاقمان، ويبلغ فيهما تعداد القتلى مستويات مرتفعة. إن عمليات الشرطة حتى الآن في مواجهة الاحتجاجات التي تتضمن إخلالاً بالنظام العام تستحق الثناء. وعلى رغم من ذلك، فإن استمرار هذا التحدي وهذه التطورات الداخلية في جهاز الشرطة وفي الغلاف الوزاري لها يدفع إلى القلق، وبدلاً من عملية إعادة التأهيل، تبذل شرطة إسرائيل الآن أقصى قدراتها للمحافظة على النظام.
منظومة الاحتياط - الحلقة الضعيفة
تؤثر الأزمة السياسية - الاجتماعية مباشرةً في كفاءة المنظومة، وفي مستقبلها وقدرتها على المحافظة على النموذج والبنية القائمة. إن خطوات وقف التطوّع التي يقوم بها ضبّاط ومقاتلون كُثر، أغلبهم من وحدات النخبة، تزعزع شرعية التجنيد للاحتياط. إن الذين يوقفون تطوّعهم يشعرون بأن العقد بينهم وبين الدولة قد انتُهك، وبأنهم تحت تهديد محكمة الجنايات الدولية في لاهاي.
على المدى القصير، يمكن لإلحاق الضرر بمنظومة الاحتياط أن يؤدي إلى عدم القدرة على القيام بمهام معيّنة، وبصورة أساسية في سلاح الجو. يمكن إصلاح هذا الخلل خلال وقت ليس بالطويل. لكن الخطر الكبير يكمن في المسارات بعيدة المدى التي تهدد وجود المنظومة عموماً وما تبقّى من "جيش الشعب". ترتكز منظومة الاحتياط على التطوّع، والتكاتف، والكفاءة العملياتية، وسيكون من الصعب ترميم روح التطوّع والتكاتف، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تراجع في فاعلية الجيش خلال القتال.
يجب أن نتوقع أن ما يحدث في احتجاجات الاحتياط سيؤثر عاجلاً أم آجلاً في الجيش النظامي، الإلزامي، وفي المرشّحين لخدمات الأمن.
يشدد الجيش على أن تفوّقه النسبي ينبع من نوعية مقاتليه، وتكاتفهم، وتماسك أجنحته المتعددة. هذا التفوق يواجه تحديات اليوم عبر تغلغل الخطاب السياسي المنقسم إلى صفوف الجيش، والضرر الذي يلحق بالجيش يزعزع أساساته وقدرته على القيام بمهامه.
زعزعة الوضع الاقتصادي
هُناك علاقة واضحة بين الأزمة السياسية - الاجتماعية في إسرائيل وحال الاقتصاد الآخذ في التراجع. خلال الأعوام الماضية، كانت لدى الاقتصاد الإسرائيلي مناعة ملفتة، لكن عدم الوضوح بسبب التغييرات القضائية أدّى إلى عملية عكسية. منذ كانون الثاني، تسجل أَسْهُم بورصة تل أبيب تراجعاً نسبياً، في الوقت الذي تسجّل فيه نظيراتها الأوروبية (stoxx 600) والأميركية (s&p 500)، ارتفاعات ملحوظة. وقد تطرّق حاكم بنك إسرائيل في مطلع حزيران إلى موضوع تراجع الشيكل، وربطه بما يحدث داخلياً في سوق العملات الأجنبية. إن ضعف الشيكل يرفع سعر الاستيراد إلى إسرائيل، وهو ما يؤثر في غلاء المعيشة. وهذه قضية إضافية لا تحصل على الاهتمام اللازم بسبب الأزمة.
من المؤكد أن الموضوعات مرتبطة، وتؤثر الواحدة منها في الأُخرى. عدم الوضوح الذي يسيطر على النظام الداخلي يلحق الضرر بالتخطيط الاقتصادي طويل المدى، وبالتالي بالاستثمارات الأجنبية. وكانت إحدى التفسيرات لتعزيز قوة الشيكل خلال الأعوام الماضية تزايُد الاستثمارات الأجنبية، وبصورة أساسية في قطاع التكنولوجيا عالية الدقة، وهو ما تراجع خلال الفترة الأخيرة بسبب عدم الوضوح السياسي.
بحسب تقرير ليؤومتيك وIVC عن شهر تموز 2023، فإنه في النصف الأول من العام، كانت الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا عالية الدقة هي الأقل منذ سنة 2019. وذكر تقرير أصدرته سلطة الاختراعات في نهاية تموز 2023 أنه لا يمكن اتّهام الركود العالمي الآن، إذ في الوقت الذي تزدهر فيه التكنولوجيا عالية الدقة في العالم، يواجه السوق المحلي صعوبات في النهوض. يمكن أن تكون لهذه الظاهرة إسقاطات واسعة على "القاطرة القومية" على المدى البعيد.
إن الأزمة الداخلية تمنع المعالجة المركّزة لغلاء المعيشة وزيادة العمالة في قطاعات ضعيفة، حتى إنها تفاقم أزماتها، والدليل على ذلك أن الميزانية التي أُقرت خالية من محفّزات النمو، وتشجّع على عدم تدريس العلوم الأساسية، وتقلّص قدرات الخزينة القومية بتحويل ميزانيات إلى أماكن حيوية.
عن موقع "معهد دراسات الأمن القومي"
الجيش الإسرائيلي يواجه كارثة كبيرة.. ما هي؟
03 يناير 2025