هذا الأسبوع خطت إسرائيل خطوة أخرى نحو العودة للأصول من خلال ما يعرفه وزير قضائها ياريف ليفين بالثورة القضائية.
وهي ثورة حقيقية ليس على القضاء، لكنها ثورة شاملة يقوم بها التيار الديني نحو اعادة صياغة مركب الهوية وحسم تناقض الثنائية الثقيلة التي حملتها إسرائيل مبكراً وهي تحاول جاهدة إنجاح الزواج القسري لتلك الثنائية.
دولة يهودية دينية أقيمت امتداداً لنص ديني غارق في القدم كحبل سري قادم من أقاصي الروايات لربط الواقع، ودولة علمانية أقيمت امتداداً للتراث الأوروبي، وبين هذا ونقيضه الرافض كان للهيمنة الإشكنازية الأوروبية قوة سبق التأسيس وقوة العقل وسيطرته على الإمكانيات كي تفرض علمنة في سياق قومي بنكهة دينية لم يسمح لها بالتغلب على هوية صنعتها المخيلة القادمة من القارة الأوروبية.
لا يتظاهر الإسرائيليون الذين وجدوا أنفسهم أمام خلخلة كبيرة في هذا التراث لأن ائتلافا حكوميا فاز بالانتخابات يُجري بعض التعديلات على منظومة القضاء، وخصوصاً على النصوص التي تجري عليها التعديلات، فتلك النصوص التي ضمنت كل تلك القوة للقضاء لم ترافق الدولة منذ التأسيس، بل جاءت بعد نصف قرن من ذلك التاريخ. وكانت الدولة تدار وتتقدم وتخوض معاركها وتنتصر بدون تلك البنود المختلف عليها.
جاءت التغييرات في تسعينات القرن الماضي على يد القاضي الأشهر أهارون باراك رئيس المحكمة العليا بعد قضية بنك مزراحي وقراره الشهير بوضع رقابة قضائية على قرارات الحكومات وصلاحيتها، بإلغاء أي قرار مخالف لوثيقة الاستقلال كنص يملك صلاحية الدستور، وهو ما عرف ببند المعقولية الذي جرى إلغاؤه، وهو القاضي الذي شهد أكبر تظاهرة في تاريخ القضاء ضده من قبل اليمينيين في القدس.
تدرك العلمانية التي أفاقت متأخراً في اسرائيل والتي تعرضت لعوامل التعرية الديمغرافية والثقافية وتحاول بكل ما تملك من قوة الدفاع عن حصنها الأخير، تدرك أن الأمر لا يتعلق بالقضاء، بل أن الثورة القضائية هي مفتاح الدخول نحو عالم مختلف ومتخلف بنظرها، نحو نزع رداء العلمانية عن الدولة التي لبسته في أربعينات القرن وإلباسها زي الحاخامات الأسود، وإقامة شريعة الهالاخاة باعتبارها الهوية الأكثر انسجاماً مع التكوين والثقافة اليهودية ومبرر وجودها في فلسطين بذلك الحبل الديني.
يدرك علمانيو اسرائيل أن حكومة المتدينين لا تسعى لتحرير ذاتها من بعض القيود الإدارية التي تضعها المحكمة على عمل الحكومة، لأن تلك الحكومة وأفرادها يحملون ثقافة مغايرة غارقة في القدم والجهل، بل لأن ثورة القضاء تهدف للقضاء على النموذج القائم من خلال خلخلة كل أركانه، وليس ما يحدث في الجيش سوى أحد تلك التعبيرات.
الأساس الإيدلوجي الذي يحرك هذه الحكومة هو ما يُحدث كل هذا الفزع لدى المعارضة العلمانية هو أن انتقالاً هائلاً يشبه الزلزال على وشك التحقق. فالائتلاف يعمل على نقل مركز القيادة من تل أبيب إلى كريات أربع، من الساحل للداخل، والتعليم من التخنيون إلى الييشيفاة «وهي المدرسة الدينية في القدس بها يتم تعليم الشريعة اليهودية (الهالاخاة) وطرق الإفتاء في الديانة» ومن عباقرة الرياضيات نحو حفظة التوراة، ومن جيش قوي إلى من يوازيه في الأهمية وأكثرهم طلاب الدين وحفظة الكتاب، ومن النموذج الحداثي الأوروبي إلى النموذج الداعشي الديني واستبداد الشرق، ومن الدولة الديمقراطية إلى الدولة الدينية اليهودية.
كان في التعريف القسري «دولة يهودية دينية» ما يشي مبكراً بالتناقض الذي لا بد وأن يحسم المسألة لصالح أحدهما، وتلك فقرة التغلب الحقيقية التي تطل منها ملامح تغلب اليهودية على الديمقراطية. فالزواج بين الدين والديمقراطية هو مجرد نكتة ساخرة لم يكن أكثر من محاولة تكفلت الديمغرافيا بهزيمتها، ولسوء حظ العلمانية المتلاشية أنها من وفرت كل عوامل هزيمتها.
قبل وصول الثلاثي سموتريتش وبن غفير وماعوز الذي يشرف على تغيير هوية الدولة ومعهم شاس ويهودوت هتوراه كان بنيامين نتنياهو يطالب بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وهو ما أقرته الكنيست منذ ست سنوات عندما صادقت على قانون «يهودية الدولة». وحتى لا تبقى الدولة كالغراب الذي أراد تقليد الحجل وقد فعلت ذلك لعقود دولة دينية علمانية، كيف؟ أو دولة يهودية ديمقراطية، كيف؟ التاريخ عادة ما يتكفل بحسم قضايا متأرجحة، وهذه المرة حسمها في غرف نوم المتدينين كما كان يحذر أرنون سافير من الحسم في غرف العرب، لكنها جاءته من ساحة أخرى.
مع نشوة النصر بانتصار اللامعقول على المعقولية لم يؤجل الحزب الديني يهودوت هتوراه احتفاله ليتقدم بمشروع مساواة حفظ كتاب الدين بالخدمة في الجيش، وتلك لم تكن مجرد نزوة حزب ديني وقرار مجموعة من الحاخامات، بل روح الدولة وثقافتها القادمة. هذا ما يدركه علمانيو اسرائيل ويثير لديهم كل هذا الأرق الذي تعكسه استطلاعات الرأي ونسبة من يفضلون الهجرة والقلق على شكل الدولة، ومقالات الكتاب التي تشير للحنين للدولة وللثقافة والهوية التي يتم تنحيتها.
ما يحدث مجرد بدايات للمسار الديمغرافي وتجلياته الثقافية قد يتوقف مسار تديين الدولة، لأن هناك ما يشبه التوازن في حال سقوط الحكومة، لكنه يعكس المستقبل الذي سيتكفل به التاريخ واصرار الحاخامات ومجتمعهم العنيد ...الدولة تتدحرج.دينية ديمقراطية.. كيف؟
بقلم: أكرم عطا الله
هذا الأسبوع خطت إسرائيل خطوة أخرى نحو العودة للأصول من خلال ما يعرفه وزير قضائها ياريف ليفين بالثورة القضائية.
وهي ثورة حقيقية ليس على القضاء، لكنها ثورة شاملة يقوم بها التيار الديني نحو اعادة صياغة مركب الهوية وحسم تناقض الثنائية الثقيلة التي حملتها إسرائيل مبكراً وهي تحاول جاهدة إنجاح الزواج القسري لتلك الثنائية.
دولة يهودية دينية أقيمت امتداداً لنص ديني غارق في القدم كحبل سري قادم من أقاصي الروايات لربط الواقع، ودولة علمانية أقيمت امتداداً للتراث الأوروبي، وبين هذا ونقيضه الرافض كان للهيمنة الإشكنازية الأوروبية قوة سبق التأسيس وقوة العقل وسيطرته على الإمكانيات كي تفرض علمنة في سياق قومي بنكهة دينية لم يسمح لها بالتغلب على هوية صنعتها المخيلة القادمة من القارة الأوروبية.
لا يتظاهر الإسرائيليون الذين وجدوا أنفسهم أمام خلخلة كبيرة في هذا التراث لأن ائتلافا حكوميا فاز بالانتخابات يُجري بعض التعديلات على منظومة القضاء، وخصوصاً على النصوص التي تجري عليها التعديلات، فتلك النصوص التي ضمنت كل تلك القوة للقضاء لم ترافق الدولة منذ التأسيس، بل جاءت بعد نصف قرن من ذلك التاريخ. وكانت الدولة تدار وتتقدم وتخوض معاركها وتنتصر بدون تلك البنود المختلف عليها.
جاءت التغييرات في تسعينات القرن الماضي على يد القاضي الأشهر أهارون باراك رئيس المحكمة العليا بعد قضية بنك مزراحي وقراره الشهير بوضع رقابة قضائية على قرارات الحكومات وصلاحيتها، بإلغاء أي قرار مخالف لوثيقة الاستقلال كنص يملك صلاحية الدستور، وهو ما عرف ببند المعقولية الذي جرى إلغاؤه، وهو القاضي الذي شهد أكبر تظاهرة في تاريخ القضاء ضده من قبل اليمينيين في القدس.
تدرك العلمانية التي أفاقت متأخراً في اسرائيل والتي تعرضت لعوامل التعرية الديمغرافية والثقافية وتحاول بكل ما تملك من قوة الدفاع عن حصنها الأخير، تدرك أن الأمر لا يتعلق بالقضاء، بل أن الثورة القضائية هي مفتاح الدخول نحو عالم مختلف ومتخلف بنظرها، نحو نزع رداء العلمانية عن الدولة التي لبسته في أربعينات القرن وإلباسها زي الحاخامات الأسود، وإقامة شريعة الهالاخاة باعتبارها الهوية الأكثر انسجاماً مع التكوين والثقافة اليهودية ومبرر وجودها في فلسطين بذلك الحبل الديني.
يدرك علمانيو اسرائيل أن حكومة المتدينين لا تسعى لتحرير ذاتها من بعض القيود الإدارية التي تضعها المحكمة على عمل الحكومة، لأن تلك الحكومة وأفرادها يحملون ثقافة مغايرة غارقة في القدم والجهل، بل لأن ثورة القضاء تهدف للقضاء على النموذج القائم من خلال خلخلة كل أركانه، وليس ما يحدث في الجيش سوى أحد تلك التعبيرات.
الأساس الإيدلوجي الذي يحرك هذه الحكومة هو ما يُحدث كل هذا الفزع لدى المعارضة العلمانية هو أن انتقالاً هائلاً يشبه الزلزال على وشك التحقق. فالائتلاف يعمل على نقل مركز القيادة من تل أبيب إلى كريات أربع، من الساحل للداخل، والتعليم من التخنيون إلى الييشيفاة «وهي المدرسة الدينية في القدس بها يتم تعليم الشريعة اليهودية (الهالاخاة) وطرق الإفتاء في الديانة» ومن عباقرة الرياضيات نحو حفظة التوراة، ومن جيش قوي إلى من يوازيه في الأهمية وأكثرهم طلاب الدين وحفظة الكتاب، ومن النموذج الحداثي الأوروبي إلى النموذج الداعشي الديني واستبداد الشرق، ومن الدولة الديمقراطية إلى الدولة الدينية اليهودية.
كان في التعريف القسري «دولة يهودية دينية» ما يشي مبكراً بالتناقض الذي لا بد وأن يحسم المسألة لصالح أحدهما، وتلك فقرة التغلب الحقيقية التي تطل منها ملامح تغلب اليهودية على الديمقراطية. فالزواج بين الدين والديمقراطية هو مجرد نكتة ساخرة لم يكن أكثر من محاولة تكفلت الديمغرافيا بهزيمتها، ولسوء حظ العلمانية المتلاشية أنها من وفرت كل عوامل هزيمتها.
قبل وصول الثلاثي سموتريتش وبن غفير وماعوز الذي يشرف على تغيير هوية الدولة ومعهم شاس ويهودوت هتوراه كان بنيامين نتنياهو يطالب بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وهو ما أقرته الكنيست منذ ست سنوات عندما صادقت على قانون «يهودية الدولة». وحتى لا تبقى الدولة كالغراب الذي أراد تقليد الحجل وقد فعلت ذلك لعقود دولة دينية علمانية، كيف؟ أو دولة يهودية ديمقراطية، كيف؟ التاريخ عادة ما يتكفل بحسم قضايا متأرجحة، وهذه المرة حسمها في غرف نوم المتدينين كما كان يحذر أرنون سافير من الحسم في غرف العرب، لكنها جاءته من ساحة أخرى.
مع نشوة النصر بانتصار اللامعقول على المعقولية لم يؤجل الحزب الديني يهودوت هتوراه احتفاله ليتقدم بمشروع مساواة حفظ كتاب الدين بالخدمة في الجيش، وتلك لم تكن مجرد نزوة حزب ديني وقرار مجموعة من الحاخامات، بل روح الدولة وثقافتها القادمة. هذا ما يدركه علمانيو اسرائيل ويثير لديهم كل هذا الأرق الذي تعكسه استطلاعات الرأي ونسبة من يفضلون الهجرة والقلق على شكل الدولة، ومقالات الكتاب التي تشير للحنين للدولة وللثقافة والهوية التي يتم تنحيتها.
ما يحدث مجرد بدايات للمسار الديمغرافي وتجلياته الثقافية قد يتوقف مسار تديين الدولة، لأن هناك ما يشبه التوازن في حال سقوط الحكومة، لكنه يعكس المستقبل الذي سيتكفل به التاريخ واصرار الحاخامات ومجتمعهم العنيد ...الدولة تتدحرج.