وسط الحرب الروسية على أوكرانيا المستعرة أوارها هذه الأيام، تحاول موسكو جاهدةً البحث عن مطارح وأسواق جديدة لتصدير منتجاتها وبناء شراكات اقتصادية ومحاولة كسر العزلة السياسية والاقتصادية المفروضة عليها من قبل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
في العام 2019، شهدت سوتشي استضافة القمة الأولى الأفريقية - الروسية، وقبل ذلك سعى الرئيس فلاديمير بوتين إلى إيجاد موطئ قدم لبلاده في البعدين السياسي والاقتصادي الاستثماري، وتحقق ذلك بزيادة حجم الاستثمار الروسي في القارة الأفريقية.
مدينة سانت بطرسبرغ التاريخية كانت هي الأخرى هذه الأيام على موعد مع قمة ثانية أفريقية - روسية شارك فيها 17 رئيس دولة، فضلاً عن ممثلين من عشر دول أفريقية، وحملت في أبعادها موضوعات اقتصادية شكلت الهاجس الأكبر بالنسبة للكثير من دول القارة السمراء التي تأثرت بقرار إنهاء العمل بصفقة الحبوب بين روسيا وأوكرانيا.
بوتين الذي يدرك أهمية ترسيخ العلاقة والشراكة الاستراتيجية مع القارة الأفريقية، تعهد بسد فجوة وقف تصدير الحبوب الأوكرانية إلى عدد من دول أفريقيا، وقال، إن بلاده ستقدم شحنات مجانية لست دول هي مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو والصومال وإريتريا وزيمبابوي.
في هذا الإطار، أعطى الرئيس الروسي مصر أهمية من بين الدول الأفريقية المشاركة في القمة، لجهة تطوير الشراكة السياسية والاستراتيجية، إذ من المحتمل أن تكون القاهرة مركزاً لتوزيع الحبوب والغذاء الروسي إلى باقي الدول الأفريقية، عبر منطقة صناعية روسية يجري إنشاؤها في منطقة قناة السويس.
ثمة مصلحة مشتركة بين روسيا والدول الأفريقية من هذه القمة، إذ على الصعيد الروسي تحاول موسكو تعويض معوقات تصدير الطاقة التقليدية ومختلف الحبوب والقمح إلى الدول الأوروبية الغربية، بإيجاد منافذ وفتح أسواق جديدة في القارة الأفريقية.
تحتاج موسكو لتأمين احتياجاتها المادية خصوصاً في إطار حرب مستمرة مع كييف التي يمدها الغرب الأوروبي والأميركيون بالذخيرة والسلاح والمال، ولذلك تجد روسيا في إمدادات أفريقيا بالطاقة اللازمة، وكذلك تحقيق الأمن الغذائي الأفريقي، خطوة على الطريق الصحيح لتعظيم الأرباح بزيادة حجم الاستثمارات في القارة السمراء.
حسب الإحصاءات التي ذكرها بوتين في القمة، فإن حجم صادرات الطاقة الروسية إلى أفريقيا زاد بنسبة 260%، في حين وصل التبادل التجاري بينهما حوالي 20 مليار دولار، وكل ذلك يُبيّن مدى حاجة الطرفين للمضي بصفقات تحقق مطالبهما.
كذلك يرغب الرئيس بوتين بكسب القارة الأفريقية في صفه وإيجاد حلفاء يمكنونه من مواجهة النفوذ الأميركي في العالم، ومدخله في هذا الموضوع لا يرتبط فقط بتوسيع حجم الصادرات إلى القارة الأفريقية، وإنما مدها بالخبرات الروسية في مجالات التعليم والزراعة والتقنيات الحديثة.
أيضاً يجوز القول، إن الصوت الأفريقي في الأمم المتحدة مهم جداً بالنسبة لروسيا، وحضورها - أفريقيا - مؤثر في الساحة الدولية إزاء القرارات الأممية، وتحتاج موسكو إلى هذه الأصوات لمنع إدانتها في حربها المتواصلة مع أوكرانيا.
على الجانب الأفريقي، ترى القارة السمراء في توسيع الشراكة السياسية والاقتصادية مع روسيا فائدة لأفريقيا من حيث تأمين احتياجاتها الغذائية وإمدادات الطاقة بأسعار معقولة، وهو ثمن قد لا يكون عادلاً لكن بالتأكيد توافق عليه موسكو في سبيل الوصول إلى مختلف الأسواق الأفريقية.
كذلك وعلى الرغم من الضغوطات الغربية والأميركية تحديداً التي مورست على القادة الأفارقة للامتناع عن المشاركة في القمة، إلا أن 17 رئيساً حضروا تحت انطباع ما الذي يمكن أن تقدمه روسيا وهل يمكن تحقيق أكبر استفادة من القمة التي تريد موسكو إنجاحها بكافة السبل.
مجرد انعقاد القمة في سانت بطرسبرغ وعديد الصفقات والمشروعات المنوي العمل فيها بين الطرفين الروسي والأفريقي، هو نجاح للسياسة الخارجية الروسية، وكسر لجدار العزلة المفروض من قبل الدول الغربية على موسكو.
وسيواصل الرئيس الروسي توسيع الشراكة على مستوى الاتحاد الأفريقي وكذلك على مستوى كل دولة، بهدف الوصول إلى أسواق معظم الدول الأفريقية البالغ عددها 54، ذلك أن المناورة السياسية والانعطافة إلى القارة الأفريقية ستعطي روسيا القوة في مواجهة النفوذ الأميركي والغربي في القارة السمراء.
بصرف النظر عن تواضع حجم المشاركة الأفريقية في القمة الثانية، عكس القمة الأولى التي جاءت في ظروف هادئة ومختلفة عن الظروف الحالية والتي شارك فيها حوالي 43 رئيس دولة ورئيس حكومة، إلا أن موسكو ستضمي قدماً في ترسيخ سياسة التقارب مع القارة السمراء، على قاعدة ما ستدفعه، الآن، من أثمان وكُلف، ستعوضه في المستقبل المنظور.