قبل فترة وجيزة، كتب الصديق والشاعر فارس سباعنة نصا ناقدا فيه شيء من العتاب، وشيء من السخط على واقع المشهد الثقافي في فلسطين، وتحديدا حول ضعف الحضور الجماهيري للأمسيات الثقافية، فقد كان شاعرنا المبدع يحاور ضيوفه الأدباء والكتّاب ضمن برنامج ثقافي ترعاه بلدية رام الله (حوارية المعنى)، وحسب سباعنة، فقد كان حضور الأمسيات ضعيفا، حتى أن آخر أمسية حضرها شخص واحد فقط! ما دعاه للتفكير مليا حول استمرارية وجدوى مثل برامج حوارية كهذه.
لست هنا بصدد تشجيع فارس، ورفع معنوياته؛ فهو شخص على قدر من الذكاء والوعي بما يمكّنه من تجاوز إخفاق من هذا النوع قد يؤدي إلى إحباط غيره، لكن فارس ليس من هذه الفئة، وقد حضرتُ له عدة أمسيات شعرية وحوارية برعَ فيها وبدا محاورا ذكيا خفيف الظل، يغوص إلى عمق محاوره بلا تكلف، وكما تألق شاعراً بمذاق وسمات خاصة متميزة.
المهم، ما يعنينا هنا موضوع الأمسيات والفعاليات الثقافية، والتي لا يخفى على أي مراقب أن الحضور والمشاركة في أغلبيتها ضعيف جداً، وأحيانا مخجل من حيث عدد الحضور، وهذه ظاهرة مقلقة تستوجب التوقف عندها ومناقشتها بجدية.
بداية، قد نتفق وقد نختلف على ضعف المشهد الثقافي بشكل عام (رواية، شعر، قصة، نقد، مناقشات كتب، حوارات مع مبدعين..)، لكن الواضح هو ضعف المشهد الفني (مسرح، سينما، رقص، غناء، دراما، رسم..)؛ والفن والأدب صنوان لا ينفصلان، ويكملان بعضهما البعض، ولزيادة الدقة يتوجب إضافة الفكر والفلسفة، وأظن هنا أن هذا الجانب يعاني من قصور مخيف، ليس على مستوى الوطن وحسب، بل على مستوى العالم العربي.
وجذر هذا الضعف في المشهد الثقافي (أدب، وفن، وفكر) هو ضعف وربما خواء المشهد السياسي، سواء في الوطن، حيث نشهد انغلاق الأفق السياسي، وتراجع الفعل النضالي والثوري.. أو في العالم العربي حيث استشراء الاستبداد والفساد والفقر والجهل، وهذه المكونات تشكل إقنيما متكاملا يأتي على شكل رزمة «بكج».
وبطبيعة الحال، يترافق مع التراجع السياسي تردي الوضع الاقتصادي، فمكونات السلطة المسؤولة عن التدهور السياسي هي ذاتها المتسببة بتشوه المجتمع اقتصاديا، بحيث تتضخم فئة محدودة جدا من مركز السلطة وأصحاب رأس المال، يقابلها تضخم طبقة المسحوقين والمهمشين، بما يؤدي إلى تآكل الطبقة الوسطى، وهي الطبقة المنتجة «تاريخيا» للأدب والفن والفلسفة، وأبناؤها هم رعاة وجمهور المشهد الثقافي وصانعوه، وبالتالي فإن اضمحلال وتأزم هذه الطبقة سينتج عنه حتما تأزم في المشهد الثقافي بصورة عامة.
وكما هو حال كل المجتمعات، كلما تراجع الأداء السياسي والنضالي واستشرى الفساد والخواء.. تراجعت الحركة الأدبية والفنية والفلسفية.. لصالح ثقافة استهلاكية وشعبوية تجهيلية، يديرها تحالف رأس المال مع السلطة المستبدة، بأدوات القمع البوليسي، والإرهاب الفكري الذي تتكفل به الحركات الأصولية والعديد من الأصوات الانتهازية والمأجورة (إعلاميون، مشايخ، كتّاب سطحيون..).
لكن، في المقابل كما هو الحال تاريخيا، يأتي دور الأدب الأصيل والفن الراقي والفكر الحر لتشكل معاً رافعة وطنية وثقافية تعيد التوازن للمجتمع، وتعيد للثقافة اعتبارها.. وهذا الصراع بين هذين النقيضين مستعر من أقدم الأزمان، وما زال قائما ومتوهجا بأشكال عديدة.
كل ما تقدم عبارة عن رؤية عامة تنظر إلى جوهر القضية وأساسها، لكن في التفاصيل والفروع هناك الكثير أيضا مما يمكن قوله.
لو أخذنا أحد أهم مظاهر الثقافة، وهو إنتاج الكتب، سنكتشف أن إنتاج العالم العربي بأكمله يعادل 1.1% من الإنتاج العالمي، وفي دراسة أصدرها اتحاد الناشرين العرب في حزيران 2021، لرصد صناعة النشر العربية بالأرقام خلال الأعوام من 2015 وحتى 2019، أظهرت الدراسة أن 20 دولة عربية أنتجت 315 ألف كتاب في 5 سنوات، واحتلت مصر المرتبة الأولى بنحو 115 ألف كتاب. فيما أنتجت فلسطين نحو 3216 كتابا، بينما أنتجت إسرائيل 8411 كتابا في سنة واحدة (2013).
وهذا يقودنا للحديث عن أزمة النشر والتوزيع وهموم المؤلفين والناشرين، وهموم وتطلعات جيل الشبان من المبدعين والكتّاب، وعن قلة عدد المكتبات العامة في الأحياء والمدن والقرى، وعن ضعف الإقبال على القراءة، وعن استشراء ثقافة «التيك توك»، والقراءات السطحية والسريعة والثقافة السمعية.. وغير ذلك من العناوين التي تحتاج إلى مناقشات منفصلة، لكن لنعد إلى موضوع الأمسيات الثقافية.
وحتى لا نبالغ في التفسير المادي للظاهرة، يتوجب رؤية عوامل أخرى لا تقل أهمية، وأقصد هنا العوامل الشخصية والنفسية والظروف الموضوعية؛ فالوسط الثقافي مثل كل المجتمعات المصغرة والنخبوية يعاني من أمراض النرجسية والتنافس والغيرة، لذا، ستجد مثقفين يعتبرون أنفسهم أكبر من المشاركة في العديد من الفعاليات، خاصة إذا كانت لمبدعين مغمورين، أو في بداية انطلاقتهم، وستجد آخرين يقاطعون مؤسسات ثقافية لأسباب متعددة. وحتى لو استبعدنا كل ذلك، من البديهي أن المثقفين مشغولون بحيواتهم الخاصة، وهذا شيء طبيعي ومشروع، وربما يرغب أحدهم بالمشاركة فيمنعه ظرف طارئ، ويحدث كثيرا أن تتضارب مواعيد الأنشطة الثقافية (بسبب غياب التنسيق بين المؤسسات الثقافية).
ومن الأسباب أيضا أن المؤسسات الثقافية تستهدف فئة المثقفين فقط، فلا توجه دعوات عامة للجمهور، وهذا خطأ كبير، فضلا عن ضعف آليات الدعاية والإعلان، فيحدث أن تمر فعاليات معينة دون أن ننتبه لها، وهنا يتحمل صاحب الفعالية الثقافية مسؤولية شخصية (طبعا إلى جانب مسؤولية المؤسسة).
من مقترحات الحل مثلا ألا تقتصر الفعاليات الثقافية في رام الله، أو مراكز المدن الكبرى، بل أن تنتقل إلى القرى والمخيمات، وإلى الجامعات والكليات، وهنا يمكن أيضا دعوة طلبة الجامعات والمعاهد (وربما المدارس) للمشاركة في الفعاليات الثقافية، ليس بهدف زيادة عدد الجمهور؛ بل بهدف تعميم الفائدة، بحيث تكون مثل تلك الفعاليات جزءا من برنامج تدريبي عملي، يختبر فيه الطلبة ومنذ وقت مبكر المشاركة الفعلية في المشهد الثقافي.
وهنا يأتي دور المنظمات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية (طبعا إلى جانب دور وزارة الثقافة) في دعم تلك الفعاليات ماديا ومعنويا. وهذا يتطلب تعميق الوعي المجتمعي بأن الثقافة بكل مكوناتها ليست خيارا ترفيا وليست مجرد مادة للترفيه، بل هي خيار أساسي واستراتيجي لأي شعب يريد التحرر والبناء والتقدم والانطلاق إلى المستقبل.