إسرائيل والتحذيرات من الحرب الأهلية

حجم الخط

بقلم رندة حيدر

 

تكاثرت أخيراً تحذيرات مسؤولين إسرائيليين وشخصيات عامة وإعلاميين من خطر انجراف إسرائيل نحو الحرب الأهلية، على خلفية تصاعد الخلافات والانقسامات والاحتجاجات على عملية "الإصلاح القضائي" التي يقودها وزير القضاء ياريف ليفين. وقد أسفرت هذه العملية عن انقسام الجمهور الإسرائيلي بصورة عميقة بين فريق يؤيد العملية، مكوّن من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، والأحزاب القومية والدينية المتطرّفة التي يتشكّل منها الائتلاف الحكومي الحالي، والتي تاريخياً تناصب المنظومة القضائية الإسرائيلية عداء سافراً، لأنها تعارض تدخّلها في شؤونها الدينية؛ وفريق يعارض هذه الإصلاحات، ويرى أنها تشكّل خطراً على الديمقراطية، وانقلاباً على كل القيم الليبرالية، ويتمثل بصورة خاصة في أحزاب المعارضة من الوسط وحتى من بعض المنتمين إلى حزب الليكود نفسه، ومن اليسار، ومن الجمهور العلماني عموماً.

 

تفاقمت، في الآونة الأخيرة، الاحتجاجات، وتأجّجت النزاعات في أعقاب موافقة الكنيست الإسرائيلي على قانون يقلّص "حجّة المعقولية"، الأمر الذي سيحدّ من تدخّل المحكمة العليا في إسرائيل في قرارات حكومية وإدارية تراها المحكمة غير موضوعية واعتباطية. وانزلق الخلاف بشدة إلى الجيش الإسرائيلي، بإعلان مئات الطيارين وآلاف الجنود والضباط في الاحتياط عدم قيامهم بالخدمة العسكرية إذا استمرّت التشريعات القضائية الجديدة. وجعل ذلك كثيرين في إسرائيل وخارجها يتساءلون: هل إسرائيل على وشك الانزلاق إلى حربٍ أهلية؟

 

والمفارقة أن التحذير من خطر اندلاع الحرب الأهلية قاسمٌ مشتركٌ بين الأحزاب الحاكمة والأحزاب المعارضة. تستخدم الأحزاب اليمينية القوميّة المتطرّفة الحاكمة التحذير من الحرب الأهلية أداة للتجييش والتعبئة والحشد، فهي تحذّر من مغبّة تفاقم ظاهرة رفض الخدمة العسكرية، وتعمل على تضخيم خطرها، والمبالغة في الحديث عن الأخطار المُحدقة بإسرائيل، وعن شماتة الأعداء بما يجري في داخلها، في محاولة لردع المعارضين وترهيب المحتجين. وبعضٌ منهم يذهب بعيداً في تحذيراتهم إلى حد التهجّم على رافضي الخدمة في الجيش واتهامهم بالخيانة. وذلك كله يفاقم العداء والكراهية بين الطرفين.

 

أما التحذيرات من الحرب الأهلية في المعارضة الإسرائيلية فتأخذ منحًى آخر من خلال محاولة جدّية لكسر الحائط المسدود الذي وصلت إليه المحادثات التي استغرقت أشهراً بين الحكومة والمحتجّين، وطرح مبادرة سياسية إنقاذية للخروج من النفق، من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية. تجلى ذلك في دعوات عدة، مثل دعوة رئيس الكونغرس اليهودي العالمي رون لاودر إلى تأليف حكومة وحدة وطنية، والمقال الذي نشره أخيراً رئيس حزب "المعسكر الرسمي"، بني غانتس، دعا فيه إلى ضرورة التجسير بين رأي الأقلية والأكثرية، والتغلّب على العداء والكراهية، وهو لم يتحدّث صراحة عن حكومة وحدة وطنية، لكنه شرح بوضوح أن إسرائيل لا يمكن أن تحكمها أقلية متطرّفة ضد أكثرية معارضة. وكذلك تحذير رئيس الدولة، يتسحاق هرتسوغ، الإسرائيليين من الحرب الأهلية.

 

في الواقع، ليس الخوف من الحرب الأهلية مجرّد نقاش سياسي، بل هو يعكس أيضاً حالة عامة وجوّاً يسود الجمهور الإسرائيلي عموماً. ففي استطلاع أجرته صحيفة معاريف في (28/7/2023)، أعرب 58% من الإسرائيليين عن تخوّفهم من اندلاع حرب أهلية، وقال 49% منهم إنهم يخافون من أن تؤدّي الأزمة الداخلية إلى إلحاق الضرر بكفاءة الجيش الإسرائيلي. فهل هذا يعني فعلاً أن حكومة "اليمين بالكامل" التي شكّلها نتنياهو قبل سبعة أشهر دفعت إسرائيل إلى حافة الحرب أم أن جذور الأزمة قديمة وأكثر عمقاً؟

 

ليست الأزمة الحالية فقط نتيجة الاختلاف على "الإصلاح القضائي"، بل هي نتيجة الصراع على الهويات الذي انفجر في الانتخابات الأخيرة للكنيست بين معسكر الأحزاب القومية الاستيطانية من جهة وأحزاب الوسط واليسار من جهة أخرى، فاليمين القومي الاستيطاني المسياني (المؤمن بالمسيح) حمّل أحزاب الوسط واليسار تبعة ضياع الهوية اليهودية، ورأى في وصوله إلى الائتلاف الحالي واعتماد نتنياهو عليه فرصة لتحقيق رؤيته، والعمل على بلورة هوية المجتمع الإسرائيلي مجتمعاً محافظاً دينياً تقليدياً قومياً متعصّباً منغلقاً على نفسه، كارهاً كل ما هو غريب وأجنبي، ومعادياً للعرب ولكل المجموعات المستضعفة. ويكنّ هذا اليمين الديني القومي الجديد أيضاً العداء الشديد للعلمانيين الإسرائيليين، ولكل رموز الدولة الأشكنازية والمؤسّسين الأوائل لها.

 

بهذا المعنى، الأزمة الحالية جزء من صراع قديم بين المتدينين في إسرائيل والعلمانيين، وكما يقول الباحث الفلسطيني، رائف زريق، إنها تعبير عن الصراع بين "قوى أشكينازية وقوى شرقية، طبقة وسطى وطبقة فقيرة، مركز البلد ضد الهوامش، أحفاد جيل المؤسسين مقابل أحفاد جيل الهجرات اللاحقة... قوة شرقية دينية فقيرة تشكّل خط المواجهة الأول مع الفلسطينيين، وتضمر الحقد على الطبقة الأشكينازية الوسطى التي بدورها تتّهم الشرقيين بالعنصرية وكراهية العرب".

 

يستمدّ اليمين القومي الجديد قوته من قواعده الشعبية المتديّنة، والتي تعتبر نفسها مهمّشة من الطبقة الحاكمة، ويستخدم خطاباً شعبوياً يهوّل فيه من خطر قيام دولة فلسطينية مستقلة، وينادي بضم المناطق الفلسطينية المحتلة علناً. وخلال الأشهر الماضية، برز أكثر فأكثر أن هذا اليمين الجديد يسعى إلى تطبيق الآليات التي استخدمها الاحتلال مع الفلسطينيين على المجتمع الإسرائيلي نفسه، مثل استخدام أدوات التحريض والتمييز والإقصاء والتفرقة من أجل إحكام سيطرته عليه.

 

لم يصل الصراع الدائر إلى مرحلة المواجهة العنيفة والعصيان المدني، والصراع المسلح، لكن الوجهة التي تتّخذها التطورات، وعجز رئيس الحكومة وفريق عمله عن دعوة حقيقية إلى حوار وطني لكل الفرقاء، وخوف نتنياهو الدائم على بقائه السياسي، ذلك كله يدفع إلى الاعتقاد بأن ما تشهده إسرائيل حرب أهلية "لايت"، لم تبلغ بعد حد الانفجار العنيف، لكن لا شيء يضمن عدم تدهورها إلى ذلك.