المفكر الأمريكي جرهام فوللر: تفهَّم مظلومية الإسلاميين والفلسطينيين وكتب عنهم

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم د.أحمد يوسف

 

إن  وجودنا الطويل في أمريكا أتاح لنا التعرُّف إلى الكثير من الشخصيات الفكرية والسياسية والإعلامية، وخاصة تلك التي أظهرت فهماً أفضل للإسلاميين، وتفهماً بشكل أوعى للظاهرة الإسلامية والقضية الفلسطينية.


في مطلع التسعينيات، بدأت العمل بمنطقة العاصمة واشنطن بأحد المؤسسات البحثية، وكانت طبيعة المهمة تفرض علينا متابعة ورصد كلَّ ما يُكتب أو يُنشر أو يُقال في وسائل الإعلام الغربية عن الظاهرة الإسلامية أو القضية الفلسطينية، والكتابة عن ذلك في مقالاتي للصحف والمجلات العربية والإسلامية.


كان من بين تلك الوجوه التي لفتت نظري في كتاباتها وأبحاثها المنشورة عبر مراكز دراسات أمريكية، المفكر والكاتب جرهام فوللر؛ أحد كبار المستشارين السياسيين في مؤسسة "راند" للدراسات والأبحاث بواشنطن، والمختص في شؤون العالم الإسلامي وحركات الإسلام السياسي، والذي سبق له أن عمل في السلك الدبلوماسي لأكثر من 20 عاماً في أربع دول عربية وإسلامية، وهو يجيد التحدث بالعديد من اللغات الشرقية.


في تلك الفترة من التسعينيات، كانت الحركات الإسلامية وتيارات "الإسلام السياسي" هي أحد أهم الموضوعات التي انشغلت بها مراكز الدراسات والبحوث الغربية.. ولذلك، كانت تشدُّنا لمن يكتب بموضوعية وروح إيجابية الرغبة في التعارف والتواصل معه.


كانت أمريكا ساحة مفتوحة للأنشطة السياسية والثقافية، وخاصة في الجامعات ومراكز الدراسات، وكانت هناك الكثير من المؤتمرات وجلسات الحوار التي تعقد فيها من حين لآخر، والتي تتناول منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والصراعات القائمة بين الإسلاميين والعلمانيين وكذلك أنظمة الحكم الشمولي. كان فوللر المختص بحركات الإسلام السياسي وجه مألوف المشاركة والحضور في تلك المؤتمرات، وعندما كنت التقيه، أحاول الاقتراب منه والتعريف بنفسي كإسلامي فلسطيني، وبما أقوم به من عمل وكتابات في الصحافة العربية. كان الرجل دمث الأخلاق، وصاحب رأي ورؤية في الكثير من شئون المنطقة السياسية وما يتعلق بالحركات الإسلامية فيها.


بعد أن تعارفنا، صار بيننا شيء من الصداقة، وقد زرته في مكتبه في مؤسسة (RAND)، حيث جلسنا في مكتبه نتحدث عن عمله السابق وخبرته السياسية بأحوال منطقة الشرق الأوسط، وأخذنا الحديث إلى بعض البلدان التي سبق له العمل بها مثل تركيا، التي عشت فيها بعض الوقت للدراسة، وكذلك أفغانستان إذ سبق لي زيارتها في مهمة إعلامية لتغطية أحوال اللاجئين والمجاهدين هناك، ثم انتقلنا للحديث عن فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، وقد سبق له أن قام بنشر دراسة عنها، وقد أبدى تفهماً لغضبنا كفلسطينيين من أمريكا بسبب سياساتها المنحازة لإسرائيل.


بصراحة؛ وجدت نفسي أمام قامة علمية ومعرفية كبيرة، وشخصية تعرف الكثير عن أحوال المنطقة وشئونها، كما أنه له وجهة نظر نقدية لسياسة بلاده الخارجية تجاه منطقتنا الشرق أوسطية. تواعدنا على لقاء آخر يجمعنا في جلسة حوارية موسعة بالمؤسسة التي كنت مديراً لها، ليتحدث إلى نخبة من الناشطين الإسلاميين وكوادر الحركة الإسلامية في منطقة واشنطن الكبرى.. وفعلاً، تمَّ اللقاء كندوة شارك في حواراتها الكثير من الشخصيات الإسلامية، وكان النقاش ثريِّاً وممتعاً.
توطدت علاقة الصداقة بيننا، وقد دعاني لبيته في منطقة ميرلاند، حيث تعرفت على أهل بيته، وقد تزوجت ابنته شاباً مسلماً من الشيشان.


كان السيد فوللر يكتب بغزارة، وينشر أبحاثاً تنمّ عن عمق معرفته بالشأن الإسلامي، وحركات الإسلام السياسي، فكنت أقوم بترجمة ملخصات لها، ونشرها في بعض المطبوعات الإسلامية؛ كمجلة المجتمع ومجلة فلسطين المسلمة.
في الحقيقة، عندما كانت تواجهنا بعض المشاكلات كمسلمين كنا نلجأ إليه لاستشارته وتبادل الرأي معه، وكان لنا بمثابة الناصح الأمين.


وأتذكر أنه بعد أحداث 11/9 المأساوية، لحق بجاليتنا المسلمة في أمريكا الكثير من الأذى، فدعوته للجلوس مع عدد من رؤساء المؤسسات الإسلامية للتشاور معه، فيما يمكننا القيام به لإقناع الإدارة الأمريكية وأجهزتها الأمنية بأن جاليتنا المسلمة "بريئة" ولا علاقة لها بكل ما حدث، وأننا لسنا أكثر من ضحية، وقد قمنا كمؤسسات ومراكز إسلامية بشجب ما وقع والتنديد به.
لا شكَّ أنَّ ردود الفعل الأمريكية كانت قاسية على جاليتنا المسلمة، حيث اعتُقل الكثير منهم، وتمَّ استدعاء قياداتهم للأجهزة الأمنية وملاحقة مؤسساتهم، ولم نعرف ما الذي يمكننا أن نفعله للتخفيف عن جاليتنا، التي أصابها الكثير من الهلع والخوف، جراء الإجراءات التعسفية التي استهدفت النشطاء الإسلاميين من أبنائها.


كان اللقاء بالسيد فوللر فيه الكثير من الصراحة والوضوح، وقد تحدث الأستاذ عبد الرحمن العمودي؛ رئيس المجلس الإسلامي الأمريكي، مؤكداً أنهم كجالية مسلمة أبرياءٌ من هذا العمل (الإرهابي)، وأنهم ضد منطق العنف في بلد منحهم الأمن والأمان، وأصبحوا جزءاً من نسيجه الاجتماعي، إذ سمح لهم ببناء مئات المساجد والمراكز الإسلامية، واحترم ما يمثلونه من قيم وشعائر، ولم يضع قيوداً على أنشطتهم الدينية والثقافية.


هزَّ السيد فوللر رأسه بما يفيد الموافقة على كلِّ ما سمع، ولكنه أوضح قائلاً: اليوم، قد يكون من الصعب عمل الكثير؛ لأن حجم المصاب الأمريكي كبير، والأجهزة الأمنية يدها -الآن- طليقة لكشف الجناة ومن يقف خلفهم. ولذلك، عليكم التحمل والصبر. وأضاف: جميل ما تقدمت به قيادات الجالية ومؤسساتها من شجب وإدانة، ولكن إلى حين أن تهدأ الأمور، فإنَّ على الجالية أن تفهم وتتفهم بأن الذي وقع كان كارثياً، وأن حجم حالة الصدمة والذهول التي أصابت الأمريكيين كانت كبيرة. وأشار بأنَّ هناك سوابق تاريخية تعرضت فيها أقليات عرقية كاليابانيين، بسبب ما فعلته اليابان من تدمير الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر عام 1941، ودخولهم الحرب إلى جانب ألمانيا، حيث تمَّت مطاردة أبناء الجالية اليابانية في أمريكا واعتقالهم في معسكرات خاصة. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، جرى الاعتذار لهم.


وعدنا السيد فوللر أن يكتب ويتحدث دفاعاً عن موقفنا كجالية مسلمة، وهذا ما فعل، ولكنَّ موجة التحريض على المسلمين (الإسلاموفوبيا) كانت كبيرة، ودفعنا أكلافاً غالية على مستوى حرياتنا الشخصية ومؤسساتنا التي تعرض الكثير منها للإغلاق، كما أودع الكثير من نشطاء العمل الدعوي والخيري السجون، واضطر الآلاف لمغادرة أمريكا والعودة إلى بلدانهم الأصلية أو البحث عن أماكن لجوء أخرى مثل كندا واستراليا.


خلال متابعتي لما يكتب وينشر من إصدارات حول الإسلام والظاهرة الإسلامية، فإنَّ كتابه الأخير "عالم بدون إسلام!!"، والذي أشار فيه بلغة أستاذ علم الديانات والتاريخ بأن واقع المظالم التي يمارسها الغرب تجاه دول الشرق كانت حتماً ستسوق لنفس النتائج، من حيث العداء والكراهية والفعل الإرهابي، والقضية ليست في الإسلام وأهله، فالحروب والكوارث التي تعرضت لها البشرية عبر تاريخها الطويل وآخرها الحربين العالميتين المدمرتين لم يكن الإسلام طرفاً فيها، وإن سياقات ما يجري في هذا العالم من عنف وإرهاب له أسباب كثيرة، وأنَّ من الظلم تحميل الإسلام والمسلمين وحدهم مسئولية ما يجري، فالغرب وسياساته الظالمة تجاه العالم العربي والإسلامي والقضية الفلسطينية هو دافع كافٍ للعنف، وطرف أساس في كلِّ ما نشاهده من رغبات في الانتقام.


ختاماً.. أحببت وأنا أتناول هذه الشخصية الأمريكية إظهار حقيقة أن الغرب ليس كله شراً محضاً، فهناك الكثير من مفكريه ممن حملوا مهمة التنوير وتقديم المعرفة والدفاع عن الإسلام والمسلمين، ولديهم رؤية ترى أنهم أصحاب منظومة قيمية وإسهامات حضارية، وأنَّ هذا الغلو والتطرف الذي عليه البعض إنما هو فعل القلة، وأنَّ الغرب بأفعاله التي تشكل حالة مستفزة لجماهير المسلمين، وما يشعرون به من مظلومية، ليس بريئاً من كلِّ هذا الذي جرى ويجري من عنف وإرهاب حول العالم.