الانتفاضة الفلسطينية: المحرّكات والمآلات

20160702204736
حجم الخط

وضعت انتفاضة السكاكين الفلسطينية، التي بدأت في تشرين الأول 2015، حداً لفترة متواصلة من الهدوء الأمني. منذ تشرين الاول حتى كانون الأول قتل 31 يهودياً واكثر من 120 من الفلسطينيين. وفي تشرين الثاني ازدادت عمليات اطلاق النار الى جانب عمليات الطعن والدهس. ورغم استمرار «الارهاب» فإن اسرائيل تمتنع من اعتباره انتفاضة. وينبع رفض اسرائيل اعتبار احداث الاشهر الاخيرة انتفاضة عنيفة من القناعة او الرغبة في اعادة الاستقرار. هناك نوعان من الادعاءات حول الاسباب التي ادت الى موجة العنف الحالية وما هو مطلوب لاعادة الوضع لسابق عهده. النوع الاول ينسب التدهور الى التحريض المنظم من قبل السلطة الفلسطينية الذي انضمت اليه ايضا الحركة الاسلامية في اسرائيل، والتي استغلت مسألة الاماكن المقدسة في القدس من اجل تأجيج السكان. ان مواجهة  الظاهرة تستوجب حسب هذا الادعاء علاجا موضعيا للجهات السياسية المسؤولة عن الواقع الحالي، الامر الذي ادى الى اخراج الحركة الاسلامية خارج القانون. النوع الثاني يلقي المسؤولية بالتدهور على الجمود السياسي وغياب الحوار بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية. حسب هكذا ادعاءات فان غياب العملية السياسية هو المسؤول عن ضياع الامل بمستقبل أفضل، والخروج من دائرة العنف يكمن في استئناف المفاوضات السياسية. صحيح أن التحريض من قبل السلطة الفلسطينية ساهم في خلق أجواء العنف، الامر الذي يشجع شبانا فلسطينيين على الاضرار باسرائيل. ومع ذلك لا يمكن فهم موجة العنف في الاشهر الاخيرة في سياقها المحلي فقط، حيث ان للامر ارتباطات اقليمية واسعة. صحيح ان الجمود السياسي يميز علاقات اسرائيل والفلسطينيين في السنوات الاخيرة، ولكن في هذه السنوات بالذات ساد الاستقرار والهدوء الامني في مناطق السلطة الفلسطينية، حيث شعر الناس بالرفاه الاقتصادي نسبيا. ما الذي يفسر، إذاً، اندلاع العنف في الاشهر الاخيرة؟ لقد أشار كاتبا هذه المقالة منذ 2010 الى أن البنية الفلسطينية تسير باتجاه نوع من الانتفاضة. استخدمنا في حينه مصطلح «انتفاضة بيضاء»، والتي كانت لها مكان في الوعي الجماهيري. كان ادعاؤنا هو ان السلطة الفلسطينية ستضغط على اسرائيل بدعم من المجتمع الدولي، وان الوسائل ستكون اعمالاً شعبية مثل التظاهرات والاحتجاجات والمسيرات والمطالبة بتحقيق السيادة الفلسطينية. كان من المفترض ان تكون هذه انتفاضة، وعلى العكس من سابقاتها «الحمراوات» تلك التي اندلعت في كانون الاول 1987 وايلول 2000، سوف ترتكز على النشاط المدني غير العنيف، حيث ستجد إسرائيل صعوبة في مواجهتها. منذ كتب ونشر المقال في («هآرتس» 22/10/2010) لم تحدث «انتفاضة بيضاء»، ولكن تدهور الامر الى «معركة بيضاء» أدارتها السلطة ضد اسرائيل، حيث تحولت مؤسسات الامم المتحدة في إطارها الى ساحة مواجهة، الأمر الذي وصل الذروة في العام 2011 عند التصويت في الهيئة العمومية على قبول «فلسطين» عضواً في مؤسسات الامم المتحدة. «المعركة البيضاء»عكست ليس فقط الصدام بين اسرائيل والفلسطينيين بل ايضا الموافقة الصامتة على مسائل أمنية واقتصادية مختلفة.  منذ رحيل ياسر عرفات ومجيء ابو مازن حظيت السلطة الفلسطينية بمباركة القيادة الإسرائيلية. وبين الطرفين تشكلت علاقات شجاعة. ساعد هذا النمط اسرائيل في تحقيق طموحها في استمرار الوضع القائم جغرافيا، وبثمن معقول. حيث كانت السلطة مسؤولة عن ادارة حياة السكان المحليين. وفي الوقت ذاته بقيت إسرائيل مسؤولة عن الامن، واستمرر الاستيطان في الضفة. استطاعت السلطة الفلسطينية اقامة سلطة ذاتية في المجال الاقتصادي والمدني والتخلص من نتائج الانتفاضة الثانية، التي أدت  الى سقوط قطاع غزة في يد «حماس». «المعركة البيضاء»، التي بادرت إليها السلطة ضد اسرائيل في الساحة الدولية، تحولت الى ساحة مواجهة متفق عليها بين الطرفين. وكانت لها قوانين لعبة واضحة. وهذا مكّن السلطة، والتي خافت من تراجع شرعيتها داخلياً بسبب التنسيق مع اسرائيل، من الظهور كمحافظة على طموح الشعب الفلسطيني للسيادة والدولة. بالمقابل ساعدت هذه التفاهمات اسرائيل في مواجهة الضغط من اجل استئناف المفاوضات، الامر الذي مكنها من اتهام السلطة بعدم الشرعية. هذا دفع اسرائيل الى الطلب من ابو مازن بالاعتراف بالهوية اليهودية لاسرائيل كشرط لاستئناف المفاوضات. المعركة المتبادلة التي ادارها الاطراف تحولت بالنسبة لهما الى أمر  حيوي على خلفية الاحداث والتغيرات في الشرق الاوسط. «الربيع العربي» الذي اندلع في 2010 عاد وطرح مسألة المقاومة الشعبية والمطالبة باحداث تغييرات سياسية ثورية. لم تمر السلطة و»حماس» بما مرت به الانظمة في تونس وليبيا وسورية ومصر والبحرين. وهكذا تحولت المعركة الفلسطينية غير العنيفة الى استراتيجية مفضلة. وتهدف الى حرف طاقات المقاومة لدى الجيل الفلسطيني الشاب عن القيادات المحلية وتوجيهها باتجاه إسرائيل، مع السعي الى الابقاء على التفاهمات الهادئة بين الطرفين. صحيح ان القيادة الفلسطينية في رام الله وفي غزة قد بقيتا وتجاوزتا موجة العنف التي اجتاحت العالم العربي، لكن «الربيع العربي» تخلل الى بنية العلاقات بين اسرائيل والفلسطينيين والحق ضررا بالتفاهمات الهادئة بين الطرفين، وانتفاضة السكاكين التي اندلعت في اواخر العام 2015 حطمت منطقة المقاومة السابقة. وقد اعتمدت انماط عمل غير عنيف. تحول الشبان الفلسطينيين الى حاملي لواء المقاومة العنيفة ووضعوا القيادة الفلسطينية جانبا. الجيل الفلسطيني الذي ولد بعد «اوسلو» 1993 يحمل روح المقاومة التي ميزت شبان «الربيع العربي» ومصادره الاجتماعية والثقافية والطبقية. لم يكن «الربيع العربي» نتاجاً لاحتجاج سياسي خالص، فقد تركز الاحتجاج ضد القيادات المركزية المسيطرة منذ ستينيات القرن الماضي واستهدف الطريقة السياسية – الاقتصادية كهدف للتغيير. «ارهاب» السكاكين الفلسطيني الحالي يرضع من مصادر مشابهة لمصادر الاحتجاج الاقتصادي العربي. تطور التعاون الاقتصادي بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية في السنوات الاخيرة، وكان ملائما للطرفين، وبالنسبة للفلسطينيين فان الازدهار ساعد في التقليل من اهمية وتأثير الجمود السياسي والابقاء على الحياة الاقتصادية في الضفة الغربية. بالنسبة لاسرائيل فان التعاون كان جزءاً من السعي للتهدئة الامنية عن طريق رفع ثمن الخسارة الاقتصادية في حال اختار الفلسطينيين طريق العنف، حيث زاد في السنوات الاخيرة عدد العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل. وأصبح بمئات الالاف واهتم اقتصاديون اسرائيليون بمشاريع فلسطينية مثل مدينة روابي الجديدة. مع الازدهار الاقتصادي، الذي استفادت منه القيادة ورجال الاعمال، زادت الفجوة التي يعانيها الشبان الفلسطينيون المتعلمون الذين ظلوا خارج الدائرة الاقتصادية، بما في ذلك القدس الشرقية التي تعاني احياؤها منذ سنوات من الاهمال وغياب البنى التحتية والاستثمارات. وفي الوقت الذي توجه فيه غضب الشبان في العالم العربي ضد الانظمة، فان غضب الشبان الفلسطينيين وُجه ضد اسرائيل. انتفاضة السكاكين ليست نتاج تحريض هذه القوة السياسية او تلك. انها تطور يشير الى ضعف قدرة السلطة واسرائيل في الحفاظ على العلاقات التي سادت في السنوات الاخيرة على اساس التفاهمات الصامتة. موجة «الارهاب» الحالية هي رد فلسطيني متأخر للثورات في العالم العربي والتي قامت بالاساس ضد الطريقة الاقتصادية- الاجتماعية والتي أبقت مجموعة اجتماعية كبيرة وبالذات شبان وطبقة وسطى خارج دائرة التأثير. لا غرابة بان اسرائيل لا تعجل في الإعلان عن الوضع الحالي كانتفاضة. من الواضح أن الحكومة تفضل العودة لما كان في االسابق، الامر الذي يسمح بوجود تعاون اقتصادي وهدوء أمني. ويبدو أيضا ان هذه مصلحة السلطة ايضا. من هذه الناحية فان اسرائيل والسلطة الفلسطينية كذلك تواجهان التوتر بين الرغبة في اعادة الوضع لسابق عهده وبين الضغوط الداخلية بالرد بقوة، على عكس منطقهما الاستراتيجي. تقدم السلطة الفلسطينية الغطاء ولو بالكلام، لـ «الارهاب» الفلسطيني، اما اسرائيل فتجد صعوبة في حال لم تتهم السلطة بالتحريض رغم دور السلطة في الحفاظ على الأمن والهدوء. تأثير السلطة واسرائيل على سير الاحداث محدود خاصة وان المنطقة كلها قد تشتعل. ان التسليم والاعتراف بالتغيرات التي حدثت في الشرق الاوسط وتراجع مكانة القيادات السياسية وانتقال الثقل من السلطة المركزية الى تيارات ميدانية، دينية أو عرقية، هو شرط أساسي لاعادة تفعيل الاستراتيجية الإسرائيلية في المسألة الفلسطينية. والسعي للعودة الى نقطة التوازن السابق يعكس التغاضي عن الواقع المتغير، والذي قد يتدهور كليا وتغيب السيطرة، لتحدث فوضى لا رجعة عنها. على الاغلب فان الضفة وغزة ستغليان لدرجة تدفع جهات اقليمية ودولية للتدخل وبالتالي تفقد اسرائيل امكانية تقرير مصيرها. والاملاءات الخارجية التي هي مرفوضة اليوم قد تتحول الى أمر لا مناص منه. عن «هآرتس»