يظل الأستاذ خالد مشعل أحد أيقونات الحركة الإسلامية في فلسطين، ليس لأنه واحداً من قيادات حركة حماس وأبرز رجالاتها مع الشيخ الشهيد أحمد ياسين (رحمه الله)، بل لأنه الذي تصدر رئاسة مكتبها السياسي لقرابة العقدين من الزمن، وحققت الحركة في عهده مع رفيق دربة د. موسى أبو مرزوق الكثير من الإنجازات ومساحات الانتشار والتمكين، ولعل دخول الحركة معترك السياسة ومشاركتها في الانتخابات التشريعية عام 2006 وفوزها بالأغلبية البرلمانية، وتصدرها لمشهد الحكم والسياسة، ثم صمودها المشهود في وجه الحصار، وتصديها البطولي لحروب إسرائيل العدوانية الثلاثة على قطاع غزة، وقدرات الحركة على فرض معادلتها فيما يخص قواعد الاشتباك في الميدان مع الاحتلال، الأمر الذي منح الفلسطينيين الفرصة للحفاظ على كرامتهم الوطنية وثباتهم على أرضهم بسيفٍ مسلول.
كانت قيادة حركة حماس في الخارج هي من تُدير الملفين السياسي والإعلامي وتوفر الدعم المالي، ونجحت في تثبيت مقولة: "إنَّ فلسطين هي القضية المركزية للأمة الإسلامية" بكل ما تعنيه من دلالات أممية.. لا شكَّ أنَّ للأخوين المناضلين خالد مشعل وموسى أبو مرزوق فضل السِبق في هذا التمدد والانتشار الواسع للحركة، وبسط كسبها ومكانتها في قلوب العرب والمسلمين.
بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله)، وترجل الفارس خالد مشعل عن ظهر جواده في ساحة الوغى، كان طبيعياً أن يهتز عمودُ الخيمة قليلاً، وتشهد ساحات العمل بعض التراجعات، وهو ما يستدعي الحاجة الملحة لفقه المراجعات، وهذا ما يعكف عليه البعض في سياق الإصلاحات.
اليوم، وبعد فترة غياب ليست بالطويلة، أعاد علينا الأستاذ خالد مشعل (أبو الوليد) إطلالته السياسية ببعض التصريحات، التي تنم عن الكثير من الوعي والحكمة، وتعكس حرصاً وطنياً بتحميل الكلِّ الفلسطيني مسئولياته تجاه ما وقع من أخطاء وعثرات، مشيراً إلى أنَّ هناك من هوى النفس ونزعة الملك ما يأخذ بالألباب وهو وراء كلّ اخفاقاتنا في إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة..
إنَّ حجر الزاوية وبيت القصيد فيما جاء على لسان الأستاذ خالد مشعل هو تلخيصٌ أمين للمشهد السياسي الفلسطيني، فالكلام يحمل إشارات بالغة الدلالة والوضوح، مفادها: "إنَّ فشل المصالحة مرجعه الصراع على السلطة وتقسيم الكيكة"!!
نعم؛ الكيكة أو الكعكة حاضرة دائماً في حسابات الجميع، ولأن أطماع البعض وشهيته كبيرة كانت خيبات الأمل في الشارع الفلسطيني هي دائماً سيدة الموقف.
إن هذه التصريحات لشخصية سياسية مخضرمة كالأستاذ خالد مشعل قطعت ببلاغتها قولَ كلّ خطيب، وخاصةً أنها جاءت عقب اجتماع الأمناء العامين في العلمين بجمهورية مصر العربية، والذي خرج فيه الجميع بُخفيِّ حُنين.
لم يحاول الأستاذ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي السابق، إخفاء الحقيقة بتحميل طرفٍ مسئولية الإخفاق دون طرفٍ آخر كما جرت العادة في لقاءات عديدة سابقة، إذ تعوَّد الشارع الفلسطيني على خطاب إعلامي تحاول فيه كلُّ جهةٍ إلقاء "تهمة الفشل" على الآخرين، وإخراج نفسها من دائرة الاتهام؛ باعتبارها مبرأة من كلِّ عيب!!
إنَّ من باب الإنصاف القول بأن هذه ليست هي المرة الأولى التي يتحدث بها الأستاذ خالد مشعل بلغة وطنية لم تتعود كثيراً سماعها كوادر حركة حماس، ولكنه -وللحقيقة- تسامى في خطابه على الحزبية، ووضع مصلحة الوطن ووجع الناس في المقدمة، متوخياً صدق القول وما تنشأ عليه من أمانة المسئولية، وصراحة الرجل القويِّ الذي لا يخشى في الله لومة لائم، كونه الرائد الذي لا يكذب أهله.
لم يعد هناك في الشارع الفلسطيني من يصدق ما يمكن أن تتمخض عنه اجتماعات الفصائل بعد تلك اللقاءات التي تكررت في عشرات الحواضر العربية والإسلامية، وتلك الجهود التي بذلتها دولٌ كمصر ولبنان وقطر والجزائر، ولكنها -للأسف- انتهت بشقِّ الجيوب ولطم الخدود على وجه كلّ فصيل.
لقد أبدع الشاعر الفلسطيني د. جواد الهشيم في توصيفه للمشهد السريالي الفلسطيني المخيِّب للآمال حين قال: هيّا... لنقتسم الوطن.. ثُلثٌ لنا.. ثُلثٌ لكم.. ثُلثٌ لمن؟ قاد القطيع إلى الإحنْ.
ختاماً يا أبا الوليد.. إنَّ التاريخ حفظ في سجّلاته للكثير من الرجال كلمة أو كلمتين، ولكنها كانت للأجيال نهجاً وأثر، وحسبي أن أقول لك إنَّك – يا أبا الوليد- سطرت في صفحات حياتك الكثير من المواقف، وكنت لأمثالي من رجالات هذا الوطن قدوة وذكرى ومعالم على طريق الأثر.
عندما سبقناك بالقول لقد أخطأنا، طالتنا الألسنة!! وعندما جاءت على لسانك وأنت القائد، طأطأ الكثير رؤوسهم، وأصبحت الكلمة من المسلّمات، وشطبت من قاموس الكبائر.
إنَّ هذه التصريحات عن سبب الفشل والاختلاف على تقاسم الكعكة، ستبدو -بلا شك- من كبائر الأمس ومحرماته، ولكنها في قاموس اليوم تستوجب الإقرار والتسليم.. ولكنَّ السؤال الذي تلوكه الألسنة: تُرى من المسئول الأول ومن الذي يليه؟ إذ ليس هناك -بعد اليوم- بريئاً طاهر الذيل يا وطن.
نعم؛ حركة حماس ترى أنَّ عليها ألَّا تقاطع اجتماعاً يدعو للوحدة وإنهاء الانقسام، حتى وإن كانت على قناعة بأن اللقاء لا طائل من ورائه، وذلك لتجنب الاتهام بأنها تسعى لتأبيد الانقسام والاستفراد بقطاع غزة.
ولكنَّ كلمات الأستاذ خالد مشعل تأتي اليوم قاطعة كحدِّ السيف، وتقول للكلِّ الفلسطيني" بمن فيهم فتح وحماس: "لا أستثني منكم أحداً".