انقلاب النيجر.. مفارقات وصدامات!

تنزيل (5).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الله السناوي

 

 

 


إنه التنازع الدولي على القوة والنفوذ في القارة الإفريقية.
لا يوجد سبب جوهري آخر يستدعي كل هذه التعبئة السياسية والإعلامية والتوسع في فرض العقوبات الاقتصادية المشددة، والتلويح بتدخل عسكري من دول الجوار إثر انقلاب في النيجر.
لم تكن محض مصادفة توقيت أن تجري وقائع الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد بازوم بالتزامن مع القمة الروسية الإفريقية في سان بطرسبورغ.
ربما تكون أصوله العربية أحد أسباب الانقلاب عليه، حيث يمثل العرب أقلية هامشية في ذلك البلد الإفريقي الصغير.
بدا الصدام علنياً ومباشراً بين فرنسا ممثلة للحضور الغربي في معادلات القارة، وروسيا الطامحة لإعادة التمركز بعدما تقوضت أدوارها إثر انهيار الاتحاد السوفياتي.
على التوالي تلقت باريس ثلاث ضربات موجعة لنفوذها العسكري والاقتصادي والثقافي في غرب إفريقيا: مالي، وبوركينا فاسو، وأخيراً النيجر.
الضربات المتتالية طلبت فصم العلاقات مع الإمبراطورية الاستعمارية السابقة.
كان الحضور الروسي بارزاً بصورة مباشرة وغير مباشرة.
نظمت تظاهرات مؤيدة لانقلاب النيجر أمام السفارة الفرنسية بالعاصمة نيامي أشعلت النيران فيها، ورفعت العلم الروسي عليها.
تبدت ذريعتان رئيسيتان على مسرح الحوادث المتدافعة.
الأولى، تسوغ التصعيد إلى مستوى غير مسبوق في أي أزمة إفريقية مماثلة بالدفاع عن الديمقراطية والشرعية، وضرورة العودة بأسرع وقت ممكن إلى المسار الدستوري، وقد تبنتها القوى الغربية، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معاً.
لأسباب مختلفة يتبنى الاتحاد الإفريقي الموقف نفسه.
عندما نشأت ستينيات القرن الماضي منظمة الوحدة الإفريقية، التي تحولت لاحقاً إلى الاتحاد الإفريقي، أقرت ضرورات عدم المس بالحدود الاستعمارية خشية الدخول في احترابات قبلية وعرقية مدمرة بين دول القارة المستقلة حديثاً.
ثم أقرت تالياً ضرورات عدم الاعتراف بالانقلابات العسكرية خشية إجهاض التجارب الديمقراطية الوليدة.
في حالات كثيرة جرى انتحال العناوين الديمقراطية من أجل المصالح الإستراتيجية وحدها.
استخدمت روسيا خطاباً مقارباً بالدعوة إلى عودة الديمقراطية واستئناف المسار الدستوري بعودة الرئيس، لكنها تحفظت على أي تدخل عسكري.
كان ذلك دفاعاً عن حلفائها المفترضين في غرب إفريقيا.
الثانية، تسوغ الانقلاب بدواعي تغوّل الدور الفرنسي على مقدرات الحياة الداخلية، رغم حصول النيجر على استقلالها العام 1960.. مرة باسم مكافحة الإرهاب، ومرة أخرى باسم الإرث الثقافي الفرنكفوني المشترك.
إنه اليورانيوم قبل أي حديث عن المبادئ الديمقراطية.
من المفارقات أن 70% من الكهرباء التي تنتجها المفاعلات النووية الفرنسية يستخدم فيها اليورانيوم المستخرج من النيجر، فيما البلد نفسه يعتمد بنسبة مقاربة على ما يصله من نيجيريا لسد احتياجاته من الكهرباء!
بعد الانقلاب أوقف تصدير اليورانيوم لفرنسا.
كان ذلك داعياً لغضب في باريس وصل إلى حد استخدام نفوذها لدى المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا المعروفة اختصاراً بـ"إيكواس"، لتمضى قدماً في سيناريو التدخل العسكري بدعوى إعادة الشرعية إلى النيجر.
بمعنى أكثر دقة: استعادة النفوذ الفرنسي العسكري والاقتصادي والثقافي.
كان اجتماع رؤساء أركان دول "إيكواس" في نيجيريا للنظر في خطط التدخل العسكري إشارة إلى أن غرب إفريقيا كله، لا النيجر وحده، يوشك أن يشتعل بالنار.
أحد دواعيها للتدخل العسكري خشية أن يتكرر السيناريو الانقلابي في دولهم نظاماً بعد آخر، فيما يشبه "أحجار الدومينو" المتساقطة!
كأي ألعاب خطرة تتبدى الآن على سطح الحوادث المتدافعة احتمالات انزلاق غرب إفريقيا إلى المجهول.
أعلنت بوركينا فاسو ومالي، مدعومَين من غينيا، أن أي تدخل عسكري في النيجر بمثابة إعلان حرب ضدهم.
موضوعياً؛ لأنهم في وضع مماثل.
في حال اشتعلت النيران سوف تجد جماعات العنف والإرهاب المتمركزة على الحدود بين مالي والنيجر فرصتها لتتمدد وتقوِّض أي استقرار ممكن.
الأخطر أن حرباً إفريقية داخلية سوف تنشب في غرب القارة، تستهلك تطلعاتها للديمقراطية وحرية القرار الوطني معاً.
بتداعيات التصعيد المتبادل تحول محمد بازوم من رئيس محتجز إلى رئيس معزول، جرى قطع الاتصالات الهاتفية عنه، التي كان يتلقاها من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لدعمه وتأييده.
هكذا استكمل الانقلاب إجراءاته ومقوماته.
لم تكن هناك دواع مقنعة ومتماسكة لإطاحة الرئيس، ولا كانت هناك شعبية للانقلاب، فقد خرجت باليوم التالي تظاهرات تندد به في العاصمة، غير أن المزاج العام تغير بصورة ملموسة عقب التلويح بالتدخل العسكري.
من غير المتوقع أن تتورط فرنسا بصورة مباشرة في أي عمل عسكري، لكنها حاضرة وشريكة رئيسة بالتحريض والتخطيط والتسليح إن لزم الأمر.
من المستبعد تماماً أي أدوار مباشرة للولايات المتحدة، لكنها لا تخفي باسم الديمقراطية والحفاظ على المسار الدستوري دعمها الضمني لسيناريو التدخل العسكري.
تدخل البنتاغون برسائل دعم مباشرة فيما كان يفترض أن يترك الأمر كاملاً للبيت الأبيض ووزارة الخارجية، كما جرت العادة في الأزمات المماثلة.
بدا الأمر في جانب رئيس منه استضعافاً للنيجر.
المعنى التقطه قائد الانقلاب عبد الرحمن تياني، واصفاً العقوبات الاقتصادية التي فرضت على بلاده بأنها "غير عادلة وغير إنسانية.. وفيها استهتار بالجيش!".
هكذا استخدم العقوبات، التي تبارى في فرضها الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في اكتساب صفة الضحية، وتوحيد الجيش خلفه!
أبدت دول أوروبية عديدة خشيتها من الاندفاع إلى المجهول، واحتذت روسيا موقفاً متوازناً مقصوداً حيث دعت إلى عودة الرئيس المنتخب وتحفظت على العمل العسكري.
تحاول موسكو أن تكسب مواقع أقدام جديدة في القارة بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وأدوار مجموعة "فاغنر" حاضرة في المشاهد المحتقنة.
المصالح الإستراتيجية قبل المبادئ والقيم تحكم قواعد التنازع الدولي على قيادة العالم عند لحظة فارقة تحتدم فيها مواجهات السلاح في الحرب الأوكرانية.
هذه حقيقة ما يحدث الآن من مفارقات وصدامات في ذلك البلد الإفريقي الفقير وشبه المنسي.