"بدنا نعيش".. بين أحلام البؤساء وكوابيس الفتنة

img-20181219-wa0132-1585945919.jpg
حجم الخط

بقلم الكاتب: د. وليد القططي

 

 

عندما يأكل الإنسان القليل والفُتات من الطعام، ويلبس القديم والبالي من الثياب، وينتعل المُهترئ والمُمزق من الأحذية، ويسكن الضيق والمُتهالك من البيوت... فذلك هو الفقر المادي. وإذا صاحب ذلك شعور الفقراء بديمومة الفقر، وأبدية العوز، وأزلية العُسر، فيفقد الفقيرُ الأملَ بغدٍ أفضل، ويضيع عنده الرجاء بمستقبلٍ أحسن، ويتوارى عنه حلم القادم أجمل... فتلك مرحلة البؤس التي يدرك فيها البؤساء أنَّ الفرجَ ليس بقريب، والحديث عن الخلاصِ أمرٌ غريب، والكربُ باقٍ لأمدٍ بعيد، ولا يظهر في الأُفق شعاع أملٍ جديد، واليأسُ ملتصقٌ بهم كحبل الوريد... فذهبوا إلى حراكٍ شعبي تحت عنوان "بدنا نعيش".

"بدنا نعيش" حراكٌ شعبي في قطاع غزة انطلق منذ سنوات أكثر من مرة، وتجدد في الأيام الأخيرة، وولد من رحم المعاناة مُعبّراً عن مأساة جيلٍ بأكملهِ من الشباب الذين توقف قطارُ حياتهم عند محطةٍ كئيبة يسكنها الاحتلال والحصار والانقسام، وتفوح فيها رائحة الاستبداد والفساد والحزبية، وينعق فيها بوم التعصب والعجز واللامبالاة... وهو حراك شعبي حقيقي، يحتج على مظالم موجودة، ويُطالب بحقوق مفقودة، ويُعبر عن طموحات مشروعة، ويتطلع إلى أحلام محدودة... تتلخص في عدم وجود فرص عمل لأجيال الشباب الجديدة، وتراجع جودة الخدمات العامة، وسوء الأحوال المعيشية، وزيادة عبء الضرائب الحكومية، وإطلاق يد البلديات في جباية الأموال، وغلاء أسعار السلع والخدمات، وانقطاع التيار الكهربائي، وتفشي ظاهرة التسوّل... وغيرها من التفاصيل التي تُعبّر مجتمعة عن مأساة الشعب الفلسطيني.

مأساة الشعب الفلسطيني في غزة هي جزء من نتائج النكبة الفلسطينية وتبعاتها، والتي حدثت عام 1948 بنشأة الكيان الصهيوني ككيان استيطاني إحلالي اقتلع الشعب الفلسطيني من أرضه وهجّره منها وفقد بذلك مصدر رزقه الأساسي وهي الأرض، واستكمل تلك النكبة باحتلال باقي فلسطين عام 1967م لتحل نكبة ثانية بالشعب الفلسطيني، وما تبعها من استيطان وتضييق وحصار وفرض للتبعية الاقتصادية التي كرستها السلطة الفلسطينية في اتفاقية أوسلو والاتفاقيات المنبثقة منها، لتتحمل السلطة عبء الإدارة المدنية والاقتصادية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الذي أصبح احتلالاً نظيفاً يسيطر على الأرض من دون أن يتحمل مسؤولية السكان، ولتقوم السلطة بعد الانقسام عام 2007م بفرض العقوبات الاقتصادية على قطاع غزة مساهمة في تعميق المعاناة الاقتصادية لسكانه... ولكن عامل غياب العدالة الاجتماعية كان الأكثر حضوراً في الحراك الشعبي.

غياب العدالة الاجتماعية كدافعٍ بعد الاحتلال والانقسام لحراك "بدنا نعيش"، ناتج من وجود قناعة لدى فقراء غزة بغياب العدل في توزيع الحرمان والثروة، وتقسيم البؤس والترف، وتخصيص العُسر واليُسر. وعدم إيمان البؤساء في غزة بأنَّ لهم شركاء في المعاناة وتحمل أعباء تردّي المعيشة من عليّة القوم ومن بيدهم مقاليد الأمور، رغم أنهم دفعوا ضريبة المقاومة من حياتهم ومستقبلهم. وهذا الشعور بغياب العدالة الاجتماعية يرونه واقعاً يتأكد مع الزمن بزيادة الهوّة الاقتصادية في المجتمع بين طبقتين – قلة مُترفة وكثرة محرومة – وبينهما طبقة متوسطة تتأكّل مع الزمن.

وهذا الشعور بغياب العدالة يؤدي إلى الإحساس بالقهر والوعي بالظلم وتوجيه الغضب نحو من يحتكر السلطة والثروة، ولن يكترث البؤساء إنْ كان الاحتكار باسم المقاومة أو المساومة.

الاحتلال والانقسام وغياب العدالة الاجتماعية أسباب حقيقية لسوء الأحوال المعيشية الدافعة لحراك "بدنا نعيش"، وهي الوجه الأول للحقيقة، أمّا وجه الحقيقة الثاني، فهو وجود أجهزة أمنية للسلطة متحالفة مع الاحتلال تعمل على توظيف الحراك – وربما إيجاده ابتداءً – لتوجيهه نحو أهدافها الرامية إلى إحداث حالة من الفوضى والإرباك والتخريب في قطاع غزة كبيئة شعبية حاضنة للمقاومة، لإيجاد فجوة بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، وصولاً إلى هدف تقويض شرعية المقاومة، خدمةً لمشروع سياسي هدفه النهائي الاستسلام للعدو تحت مُسمّيات التسوية والسلام، وهذه الحقيقة يجب أنْ لا تتخذ ذريعة ومبرِراً لشيطنة الحراك بالكامل، وتشويه كل الناشطين فيه، وتوزيع الاتهامات بالعمل وفق أجندة مشبوهة، ووصف الحراك بالفتنة الشيطانية التي يوقظها أعداء الدين والوطن والمقاومة!!!.

انطلاقاً من وجهَي الحقيقة لحراك "بدنا نعيش"، فإنَّ أحلام البؤساء المُحقة والمشروعة بمضمونها البسيط والواضح والمباشر، يجب أنْ لا تطحنها كوابيس الفتنة التي تُرفع كسيف مُسلّط على الفقراء والبؤساء في غزة، فالفتنة الكُبرى في استمرار هذا الوضع الكئيب البائس، ومنْ يكتم أصوات الناس ويقمع صرخاتهم خوفاً من الفتنة، فقد سقط في بئر الفتنة نفسها، فهل يُعقل أن يطلب أحدٌ من الضحية أن لا تصرخ، ثم يلومها على صراخها ويحمّلها مسؤولية ألمها إذا صرخت، بعد أنْ زاد حمل عذابها، ووصل السخط منها منتهاه، وبلغت قلوبها الحناجر، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وضاق عليهم الوطن بما حمل من هموم وغموم بعد سنواتٍ عجاف في انتظار سنواتٍ سمان.

وحتى مجيء السنوات السمان وتعجيلاً لها نحن بحاجةٍ إلى شعارٍ جديد هو "بدنا نعيش وبدنا نقاوم"، وهذا يتطلب العمل – رغم محدودية الإمكانيات والثروات – على تلبية حاجات الناس الاقتصادية، وتوفير مقوّمات الحياة الأساسية للمجتمع، وتخفيف عبء معاناة المواطنين اليومية، وفتح آفاق الحياة الحرة الكريمة... وعلى الأقل أنْ يشعر الناس بأنهم شركاء في المغنم والمغرم، فيتم توزيع الثروة والخدمات – رغم محدوديتها – عليهم بعدالة بعيداً عن التمييز، وتوزيع فرص العمل – رغم قلتها – عليهم بتكافؤ بعيداً عن الحزبية.

وبقدر ما يتم توفير مقومات الحياة الأساسية والكريمة، وتحقيق العدالة الاجتماعية في الأعباء والمكتسبات؛ بقدر ما يتعزز صمود الشعب وتزداد قوته، وبالتالي صمود المقاومة وقوتها، فالعيش بعزة وكرامة يقوّي المقاومة، وبالمقاومة تتحقق الحياة العزيزة الكريمة، وكلاهما معاً يُعيدان وضع عجلات قطار المشروع الوطني الفلسطيني على قضبان طريق التحرير والعودة.