نجمع، اليوم، ما نثرنا حتى الآن من خيوط في اتجاهات مختلفة، وقد صار لدينا، على الأرجح، ما يكفي لرسم صورة متعدّدة الأبعاد لسيرة كونديرا الشخصية والمهنية، وما قد يتجلى فيها من علامات تصلح للتدليل لا على تأييده لإسرائيل (فهذا مفروغ منه)، بل على فعل التأييد نفسه كحلّ، بأقنعة ومجازات أدبية، لأكثر من ورطة شخصية ومهنية من عيارات وجودية فعلاً. شغلنا، إذاً، على الأقنعة والمجازات.
نقطة البداية التي تفرعت عنها الخيوط، ومن المنطقي أن تجتمع عندها، هي السيرة الشخصية. وقد أوردنا معلومات وعلامات وثيقة الصلة منها: أن العداء للسامية يمكن أن يستخدم للتدليل على الشيء ونقيضه. فثورة البلاشفة، مثلاً، صُوّرت في الغرب كمؤامرة يهودية، بينما زعمت الستالينية في آخر عهدها، وهي الوريث الشرعي لثورة البلاشفة، في مؤامرتَي الأطباء في موسكو، والتحريفيين في براغ، أن ثمة مؤامرة يهودية على النظام الاشتراكي.
وينبغي النظر إلى ازدواجية كهذه كمحرّض على طرح الأسئلة، وإثارة الشكوك، خاصة من جانب عامل طموح في الحقل الثقافي يكتب الشعر، ويضع أولى خطواته على طريق الرواية، ويدين بالولاء للحزب الشيوعي والنظام الاشتراكي. المهم أن في سيرته الأولى أكثر من علامة استفهام تتعلق بالنزاهة الشخصية، وباحتمال أن يكون قد كتب تقارير أمنية عن زملائه.
ومع هذا في الذهن، يصعب اختزال سيرة على هذا القدر من التعقيد في تفصيل صغير. فسيرته الحزبية كانت مسكونة بالصعود والهبوط ما بين طرد من الحزب وعودة إلى صفوفه، مع كل ما اقترن بأمر كهذا من دراما على الصعيدين الشخصي والمهني، ناهيك عن التداعيات الاجتماعية.
وفي دوّامة هذا كله يبدو أن صاحبنا لم يفقد الأمل، كان مؤمناً بإصلاح النظام، ومن دعاة الإصلاح وإطلاق الحريات العامة. لذا، يُعتبر من المُحرّضين على ربيع براغ، وغالباً ما تُعقد مقارنات بينه وبين المثقف البارز وكاتب المسرحيات فاتسلاف هافيل، الذي سيصبح رئيساً للدولة بعد سقوط النظام.
كان كلاهما من الوجوه المعروفة في الحقل الثقافي التشيكي قبل ربيع براغ. وخلافاً لكونديرا ودعوته إلى الإصلاح، وقناعته بخصوصيات تشيكية (ثقافية وسياسية، وتاريخية) تعزز الرهان على الإصلاح، تبنى هافيل، وعبّر عن، قناعة راسخة باستحالة الإصلاح، فالنظام القائم غير قابل للإصلاح، ولا إمكانية للخروج من أسر الشمولية دون تغيير النظام نفسه.
من الثابت، بأثر رجعي، طبعاً، أن هافيل كان مصيباً، وأن خصمه كونديرا لم يحالفه الصواب. ومع ذلك، فإن ما يستأثر باهتمامنا، هنا، يتمثل في مرافعات ساقها الثاني لتفسير قناعته بالإصلاح، ولعل في المرافعات المعنية ما يفسّر تحوّلاته الشخصية والمهنية اللاحقة، بما فيها انشقاقه، بالمعنى السياسي والجغرافي، أي ترك الحزب، ومغادرة البلاد، والعيش في الغرب، والكتابة بالفرنسية، أيضاً.
تتمثل أهم مرافعاته، في هذا الصدد، في سر بقاء الأمة التشيكية، ونجاحها في الحفاظ على لغتها الخاصة، وتقاليدها الثقافية، وهي قليلة العدد، والمساحة، في أوروبا الوسطى، محشورة بين الشقَّين الشرقي والغربي للقارة الأوروبية، ومرشحة دائماً للابتلاع في صراع القوى الأوروبية الكبرى على المكان والمكانة.
تمثّل السر، لدى كونديرا، في قدرة الأمة التشيكية على التفاوض، وإتقان فنون العيش بين الحيتان، وبلورة آليات دفاعية خاصة، تتمثل في خصوصيات لغوية وثقافية حمتْها، على مدار قرون، من الابتلاع والذوبان في لغات وثقافات الآخرين، ناهيك عن وجود ميول نقدية في صميم الثقافة التشيكية. وبهذا المعنى، كان التشيك، في نظره، الأكثر تمثيلاً للحضارة الغربية (حضارة السؤال) وبالتالي أكثر الأوروبيين أوروبية.
ولا يبدو من قبيل المجازفة القول: إنه عثر على مثيل لهؤلاء، وعلى ما يصلح وسيلة إيضاح محسّنة لتجربتهم التاريخية، في التجربة التاريخية للجماعات اليهودية في أوروبا، وهي التي امتلكت تقاليد لغوية وثقافية خاصة، وعاشت على الحد بين أمم ولغات وثقافات. وقد حلم أبناؤها، خاصة بعد الانعتاق، وظهور ما وصفه دويتشر باليهودي - اللايهودي (تكلمنا عنه في معالجة سبقت) بأوروبا عابرة للقوميات، وعمل الراديكاليون منهم على تشكيل هويتها "لا بوصفها رقعة جغرافية، بل ثقافة".
نسمع أصداء مرافعة كونديرا في خطاب قبول الجائزة الإسرائيلية، وفي كلامه عن الدولة الإسرائيلية بوصفها "القلب الحقيقي لأوروبا"، القلب الذي يوجد "خارج الجسد". والواقع أن هذه الأصداء لن تكون مفهومة بصورة كافية إلا على خلفية التقلبات التي وسمت حياته بعد ربيع براغ.
فإلى جانب ما يتهدد السلامة الشخصية من مخاطر، لا يبدو أن القناعة السابقة بالإصلاح التدريجي للنظام، وترجمة خصوصيات الأمة التشيكية، والرهان على ملكة النقد العضوية في ثقافة التشيك، لخوض تجربة جديدة في بناء النظام الاشتراكي، قد صمدت في وجه الدبابات الروسية، التي سحقت ربيع براغ. وهذا ليس مهماً في ذاته إلا بقدر ما يتجلى كانزياح في العلاقة بالحقيقة، وفن الرواية، في آن. فلم تعد ثمة حقيقة ثابتة، أو نهائية، وصار من الضروري البحث عن "ملاذ آمن" بالمعنى الإبداعي للكلمة.
عند هذا المنعطف، بالذات، بعدما سحقت الدبابات الروسية الجنة التي وعدته بها الشيوعية "صارت الرواية هي الجنّة المتخيّلة للأفراد". وبعدما ثبت أن الحقائق الأيديولوجية مجرّد وهم، صارت الرواية هي "المكان الذي لا يمكن لأحد أن يزعم فيه امتلاك الحقيقة".
نتهجى في العبارات السابقة لكونديرا مرافعة المنشق، وخيبة أمله في الجنة والحقيقة، ونحلل في قراءة لاحقة كيف صار، خاصة بعد الكتابة بالفرنسية، يهودياً كاملاً. فاصل ونواصل.