الظاهرة الفلسطينية، بعد قرن حافل بالتجارب والقرارات الصحيحة والخاطئة، وبعد قوافل شهداء وجرحى وأسرى ومشردين كَسَرَتْ الرقم القياسي في مجال تضحيات الشعوب، بالقياس لعدد السكان.
وبعد كثير من الظواهر السلبية المستهجنة، مقابل كثير من الظواهر الإيجابية، وليس آخرها تفوق طلبة "التوجيهي" الفلسطينيين، حتى في البلدان التي هم فيها لاجئون!!!
وفي زمن تزاوج الأفراح مع الجنازات وتظاهرات الاحتجاج على الأخطاء مع أوسمة التكريم، وتفوق عشرة بالمائة مع تواصل الانقسام، على التسعين بالمائة التي ترفضه، وتعتبره النكبة الثانية.
وأشياء كثيرة في حياتنا تدل على الشيء وعكسه، وعلى ما يريده الخصم مدعاة لليأس، وما يعتمل في نفوس الناس ويجسد إرادتهم بمواصلة اعتناق الأمل والحلم، حتى لو جَرّدَ الجيش الإسرائيلي ومليشيات مستوطنيه وعملاءه وداعميه من شتى الجنسيات، كل ما يملكون ولا يملكون، لرؤية راية بيضاء ترفع. "والرايات البيضاء الخطرة هي ليست تلك التي رُفعت في العام 1967 على أسطح البيوت، بل تلك التي ترفعها الإرادات حين تبلغ حالة اليأس".
فرايات 1967 لن ترفع ثانية لأن رايات القرن الحادي والعشرين أي تلك التي يراد أن ترفعها الإرادة لن ترفع أبداً.
*************************
كلُ صباح أقرأ الصحف اليومية الثلاث. التي تصدر في بلادنا، واستمع إلى أخبار الكون التي أصبحت متاحة لمن يرغب، وأحرص على إعطاء اهتمام خاص لما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، وما يقوله سياسيو إسرائيل في الحكومة والمعارضة، بما في ذلك من وُصفوا وربما "حتى الآن". بيضة القبان أي فلسطينيي 48، ذلك كي أتمكن من كتابة مقالة، أو أجري مقابلة مع إذاعة أو تلفزيون، أو أجيب على سؤال يطرحه جاري اللصيق ببيتي، أو فلسطيني أو عربي يرسله من وراء أبعد نقطة في الكون، فهذا الجهاز الذي بحجم الكف وربما أقل، يوفر كل ذلك لمن يحب ويرغب ومجاناً.
صبيحةُ الاثنين، مع فارق يوم واحد على كتابة مقالتي الأسبوعية في صحيفتنا التاريخية الأولى القدس "المشهد السياسي" وبعد جولة على كل ما يحدث في الكون، من لبنان الى أوكرانيا، إلى السودان إلى ليبيا ، إلى أخبار التطبيع المفترض وحتى الان "المزعوم" مع السعودية، وغير ذلك. لفت نظري خبرٌ لو قُرىء بتمعن، فستجده يحمل أبعاداً عميقة تميز الحالة الفلسطينية، وتجلياتها الكامنة والمعلنة، إنه ما حدث في ترمسيعا.
هي الممر الاجباري الذي يقع على ثلثي المسافة بين أقصى جنوب فلسطين إلى أقصى شمالها، بلدة جميلة على نحو استفز المستوطنين العابرين، ما جعلها هدفاً يحاكون فيه ما فعلوه في حوارة.
أهل ترمسعيا: يملكون سلاحا من عيار ثقيل، يفترض أن يخيف المحتلين أكثر من البنادق والعبوات، إنه "كوشان طابو الأرض، والبيوت والتراب والشجر"، فذلك الذي تَغَرّبَ وأنتج ثروة بعضها إن لم يكن معظمها بلغ الملايين، لا يعترف بما يملك في بلاد الغربة، إلا إذا وضع "كوشان طابو" ترمسعيا في علبة مدخراته الثمينة، إن الشجرة التي أينعت في شيكاغو وفلوريدا وهيوستن، وغيرها من الولايات الامريكية، تظل معلقة في الهواء، ويمكن أن تذروها الرياح إذا لم يتعمق جذرها في ترمسعيا، وهذا منح البلدة جمالها الأعمق ورونقها الذي لا تأكله نيران من يخطر بباله تلوين بيوتها الحجرية القوية والجميلة بسخام الحرائق.
**************************
دأب مستوطنٌ على زيارة البلدة، وحسب رواية رئيس البلدية، لا يعرف أحد ماذا يريد! وبعد الشحنة التلقائية التي أحدثتها حوارة بالعملية التي تمت فيها، وبفعل التخوف التلقائي كذلك مما سيفعل المستوطنون انتقاما. حوصر المستوطن المتجول، وعلى نحو تلقائي قام بعض الناس باحتجازه وحرق سيارته، وقام آخرون بحمايته والتحفظ عليه إلى حين تسليمه "لجيش الدفاع"، كان بوسع حارقي السيارة أن يقتلوه ولكنهم لم يفعلوا، وكان بوسع من حموه أن يتخلوا عنه ويتركوه لأقداره إلا أنهم لم يفعلوا كذلك.
إنه شيء من نضج عفوي تلقائي، يعطي الفعل حجمه وطابعه ومداه، وما فعله أهل ترمسعيا بشأن حياة المستوطن. "السيارة" في هذه الحالة، صارت أمراً ثانويا حفزني على الكتابة عن دور جبهة المستوطنين في تحفيز المقاومة كوسيلة لم تترك إسرائيل غيرها كي لا تُحرق البيوت وأصحابها يتفرجون.
كم كان الناس راغبين في سلام يضمن الحياة والكرامة والحقوق والحاضر والمستقبل، لم يخطئوا حين صوتوا في الانتخابات التي جرت على إيقاع مجازفة أوسلو ولياسر عرفات بالذات، بما فاق الثماني والثمانين بالمائة، لأنهم صوتوا للوعد الذي حملته، حين قُدم لهم بحسن نية، وبآمال وردية، صوتوا لياسر عرفات لأنهم كانوا معه في الحرب كما صاروا معه في "السلم"، وحين انقلبت الأمور إلى عكسها وجد الفلسطيني ظهره ملتصقا بحائط إرادته، وفرض كساداً دائماً على اللون الذي تصنع منه رايات الاستسلام.
قيل.. حوارة رمز للمقاومة، وقيل جنين رمز للقتال، وقيل القدس رمز للصمود والوفاء للعهد الأزلي، وقيل نابلس عاصمة جبل النار، وقيل الخليل شوكة في حلق الضم والإلحاق بكريات أربع. وقيل غزة صاحبة الرقم القياسي في القبض على الجمر، لم يقولوا أخ.. للمعتدي والمحاصِر، بل قالوها لذوي القربى!!
لا رمز يحدده مكان هو جزء من الخريطة الشاملة للوطن كله، فالرمز يليق بفلسطين وشعبها، ومبادراته المبدعة في كل اتجاه، ففلسطين هكذا هي ليست مجرد رمز مع أنها جديرةُ به، بل فعلٍ تجاوز عجز الساسة وخطاياهم.
على إسرائيل أن تعرف.. أنها وإن كانت تقدر على نشر كل جيشها المتفرغ للفلسطينيين، إلا أنها لن تقدر إطلاقاً على تغيير بوصلة الفلسطينيين الأساس نحو الحرية والاستقلال، ولا أقل من ذلك.