منذ سنوات قليلة أخذت ظاهرة التجارة الإلكترونية تنتشر على نطاق واسع، ليس في منطقتنا وحسب، بل على مستوى العالم، وتحتل الملابس القطاع الأكبر من هذه التجارة، وعندما نتحدث عن شراء ملابس عن طريق الإنترنت تأتي شركة Shein على رأس القائمة؛ والتي تشتهر بأسعارها المقبولة والشعبية.. فهل تساءلت يوماً عن سبب انخفاض أسعارها؟ وعن مصير الملابس التي تشتريها؟ ولماذا أكثرها بالكاد يستخدم مرة أو مرتين، ثم تتلف!
تهيمن Shein اليوم على سوق الملابس تقريباً بلا منافس، وقد أدخلت قطاعات أخرى عديدة على قائمة مبيعاتها مثل الإكسسوارات، وأدوات التجميل، والأدوات المنزلية، وغيرها الكثير.. بحسب بيانات الشركة يبلغ رأسمالها قرابة 15 مليار دولار، بيد أن خبراء متخصصين قدروه بأضعاف هذا المبلغ، ومنهم من قال إن مبيعاتها تتجاوز المائة مليار دولار سنوياً.. وتستفيد الطبقات الفقيرة والمتوسطة من أسعارها المعتدلة والزهيدة، بالإضافة إلى الوسطاء والموزعين الذين وجدوا في منتجاتها مصدر دخل جيد.
ولكن مقابل هذه الفوائد والأسعار الزهيدة تكمن مآسٍ كثيرة وغير مرئية؛ فقد دفع آلاف الفقراء من العمال ثمن هذه الفوائد، دفعوه من عرقهم ومن حيواتهم المسروقة.. فهؤلاء يعملون في ظروف قاسية أشبه بالعبودية، في مبانٍ غير آمنة، بلا حماية قانونية، ولا تأمين صحي، وبرواتب أقل من زهيدة، يعملون 12 ساعة يومياً، دون إجازات، وبلا حقوق، ومنهم أطفال.. وقد اشتكى بعضهم من سوء أوضاعهم عبر رسائل مشفرة، ومن خلال عبارات استغاثة مثل: «نريد مساعدتكم»، «أنقذونا».
بعد استغلال العمال، السبب الثاني لانخفاض أسعار منتجات Shein، هو نوعية الأقمشة المستخدمة، فبعضها من نوعية رديئة، وغير صحية، ولا تتطابق مع المواصفات القياسية، لذلك تتلف من أول غسلة..
المشكلة أن أغلب الزبائن يعرفون تماماً أن جودة البضاعة متدنية، لكن انخفاض السعر يشجعهم على اتخاذ قرار الشراء، ومنهم من يركض خلف «الموضة السريعة»، وكأنهم في سباق مع آخر صيحات الأزياء، والتي صارت تتبدل كل موسم، أي عليهم مجاراة أربعة مواسم على الأقل في السنة، وفي ذهن بعضهم قرار استعمال القطعة لمرة واحدة، ثم يتبرع بها، أو يخبئها في الخزانة، إلى أن تتلف ويلقيها إلى النفايات.. وهذا يقودنا إلى الجزء التالي من الموضوع: مصير الملابس المستعملة.. ومن هم ضحايا الموضة السريعة؟
تعتبر تشيلي أحد أهم المراكز التي تنتهي فيها الملابس المستعملة، وقد تحولت صحراء «أتاكاما» فيها إلى مكب نفايات، حيث تحترق الملابس من شدة الحرارة، مخلفة وراءها مكاره صحية وروائح لا تُحتمل.. وبالطبع ستجد هناك بعض العوائل الفقيرة التي عرفت كيف تستفيد من جبال النفايات، حيث تنقّب فيها باحثة عن بعض الملابس التي قد تصلح للاستهلاك، ليبيعوها إلى من هم أشد فقراً..
تأتي «بالات» الملابس من كل أنحاء العالم إلى مركز الجمارك في تشيلي، ثم يقوم الوسطاء بشرائها، ومن ثم بيعها إلى تجار التجزئة، دون أن يسمح لهم برؤية ما بداخلها، وفي الغالب أكثر من 60% منها تُلقى إلى النفايات فوراً لأنها غير صالحة للاستعمال، حتى أن بعضهم يجد داخل «البالة» المغلقة نفايات مطبخ وبقايا طعام وعبوات بلاستيك! أما ما تبقى من ملابس مستصلحة أو بقايا أقمشة؛ فيتم فرزها وبيعها في الأسواق الشعبية. بمعنى أدق تقوم الولايات المتحدة وأوروبا ومن يسمون أنفسهم بالعالم المتحضر بالتخلص من نفاياتهم بطريقة اقتصادية؛ فبدلاً من التعامل معها وفق البروتوكول البيئي المعتمد، يقومون بإرسالها إلى البلدان الفقيرة، بل وبيعها لهم، وتحويل بلدانهم إلى مكبات نفايات، فهم تحت شعار الاستدامة، وإعادة التدوير، ومساعدة البلدان الفقيرة، يبيعون هؤلاء الفقراء زبالتهم حرفياً.
المركز الثاني لبيع نفايات العالم المتحضر هو غانا، غرب إفريقيا، والتي تعتبر أكبر مستورد للملابس المستعملة، ولكن المشكلة هناك أكبر، حيث أكثر من ثلاثة أرباع الملابس المستوردة غير صالحة لأي استهلاك، ويتم التخلص منها، حيث ستجد هناك جبالاً شاهقة من النفايات، التي تفوح روائحها الكريهة مخلفة كوارث بيئية مدمرة.
في غانا وتشيلي وغيرها تعتمد مئات الأسر الفقيرة على هذه التجارة، ولكن للأسف يتم استغلالهم بشكل بشع، فمن بين كل سبع بالات يشترونها بالقليل مما لديهم، يستصلحون ما يوازي بالة واحدة أو اثنتين فقط، والباقي يتحملون عبء التخلص منه.
وعن مصادر تلك الملابس المستعملة، تأتي دول الخليج العربي في المقدمة، بعد أميركا وأوروبا، وهناك تنتشر مراكز لتجميع الملابس المستخدمة، والتي يتبرع بها الأهالي للجمعيات الخيرية، وما يفيض عن حاجة تلك الجمعيات يبيعونها لشركة مركزها الإمارات بأثمان منخفضة جداً، والتي تستورد أيضاً الملابس المستوردة من أستراليا ودول الاتحاد الأوروبي، وبعد تجميعها يتم فرزها وتدريجها بحسب مستوى جودتها، ثم تصديرها إلى غانا، وبعض دول شرق آسيا.
في أوروبا تقوم الشركات المختصة بهذه التجارة بفرز الملابس، وهناك يتم انتقاء نوع من الملابس تسمى Vintage، وهي ملابس بنوعية جيدة، وتعتبر نوعاً من الأنتيك، أي تعود لموضة قديمة صارت مفقودة ونادرة، والبعض يرغب بارتدائها من جديد، وعادة ما تُباع داخل أوروبا بأسعار مرتفعة جداً، يصل ثمن القطعة إلى مئات الدولارات.. أما بقية الملابس ذات الجودة المنخفضة والرديئة فيتم تصديرها إلى بلدان العالم الثالث (عنصرية الرجل الأبيض).
وقد أدت ثقافة الموضة السريعة fast fashion وتفاعل المستهلكين مع «الترند»، وانتشار التيك توك، والرغبة في اقتناء الماركات العالمية إلى تشجيع كبريات شركات الأزياء على مضاعفة إنتاجها وإنتاج مئات التصاميم الجديد سنوياً، بأرباح صافية تزيد على الثلاثة مليارات دولار سنوياً، فيما يبلغ الإنتاج العالمي من الملابس نحو 56 مليون طن سنوياً، ولكم أن تتخيلوا حجم النفايات من وراء تلك الملابس.. باختصار كوارث بيئية، خاصة في الدول الفقيرة.
ما يجري في هذا السوق العملاق (يبلغ حجمه أزيد من ثلاثة تريليونات دولار سنوياً) جريمة متصلة، تبدأ باستغلال العمّال والأطفال واستعبادهم، لتتضخم ثروات الأثرياء، مروراً بمافيات الوسطاء، وتنتهي بتدمير البيئة وتخريبها وتلويثها بملايين الأطنان.
وهذه المأساة لم يخلقها الأثرياء والمافيات فقط، ولكن يساهم فيها من يشتري ملابس دون حاجة، ومن يتبرع بما لم يعد صالحاً للاستعمال، أي من سقط المتاع.