تطبيع فلسطينيّ.... في الاتّجاه الآخر

08131783070030779318284182254500.jpg
حجم الخط

وكالة خبر

لم يُعِق فشلُ مجازفة أوسلو إمكانيّةَ بلوغ تسوية فلسطينية إسرائيلية وفق المواصفات الدولية التي وُضعت حينئذٍ فحسب، بل أغلق الأبواب بإحكام أمام نشوء تسوية بديلة.
في مجازفة أوسلو توفّر إجماع إقليمي ودولي على عقد تسوية متدرّجة المراحل تنتهي بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلّت في عام 1967، مع تبادلات متّفق عليها لا تتجاوز خمسة في المئة من الأراضي. أمّا القضايا الأكثر صعوبة وتعقيداً والتي اصطُلح على تسميتها بقضايا الوضع الدائم فقد وُضعت على جدول أعمال التفاوض الثنائي والمتعدّد الأطراف. وكان كلّ ذلك تحت الرعاية الأميركية المباشرة وبمساعدة أوروبا وروسيا والأمم المتحدة، في إطار ما اشتُهر في حينه باسم الرباعية الدولية.
جرت محاولات حثيثة لمنع مشروع السلام من الانهيار، غير أنّها جميعاً باءت بالفشل، بل أحدثت نتائج عكسية، نراها الآن على هيئة اشتعال دائم في الضفّة وغزّة والعمق الإسرائيلي.

شراكة الفشل
سيظلّ الجدل دائراً حول سؤال الأسئلة: من المسؤول عن فشل المشروع الدولي، الذي رُصد له دعم هائل يليق بـ"المصالحة التاريخية"؟
لكلّ طرفٍ من أطراف شراكة الفشل هذه مرافعات بليغة يُحمِّل فيها الطرف الآخر المسؤولية.

الآن بعدما انقلبت الأمور إلى عكسها، وحصدت المنطقة والعالم، بدل السلام والأمن والاستقرار، اشتعالاً يكاد يكون شاملاً، إذ لم يقتصر على جغرافية أوسلو، بل امتدّ إلى مساحات أكثر اتّساعاً، يُثار سؤال جدّي: هل من احتمال لعقد تسوية؟ وهل هنالك فعلاً مشروع ٌ ضخمٌ تعدّه الإدارة الأميركية وأساسه كما يروّجون تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من إلقاء نظرةٍ على مفارقةٍ مفادها أنّه إذا كانت الظروف الإقليمية والدولية مواتيةً حين فُتح ملفّ التسوية في مدريد ثمّ واشنطن ثمّ أوسلو، وكانت النتيجة النهائية أن فشِل المشروع، فكيف يُراهَنُ على بديلٍ في ظروفٍ ليست غير مواتية فقط بل معاكسة تماماً؟
أحدثت أميركا ومعها إسرائيل انقلاباً جذرياً على نهج التسوية الذي وُضعَ في مدريد وواشنطن وأوسلو، والذي كان قائماً على أساس تسوية فلسطينية إسرائيلية تقود إلى تسوية شاملة، حين قلب الجانبان المتحالفان المعادلة رأساً على عقب ليعطيا الأولوية للتطبيع مع العرب، وحين يكتمل وفق منطق "أبراهام" فلن يبقى لدى الفلسطيني الذي جُرّد من حلفائه سوى قبول ما يُعرض عليه، وساعتئذ سيسمح نتانياهو للفلسطينيين بتسمية الفتات بالإمبراطورية.

إسرائيل لن تهزم الشعب الفلسطيني..
أنتج نهج أبراهام علاقات ثنائية بين بعض الدول العربية وإسرائيل، وأنتج أيضاً اتفاقات على أمور عديدة، لا صلة لها بالفلسطينيين وبالتسوية معهم، غير أنّها على الرغم من التبنّي الأميركي المتحمّس لها، ضربت فكرة السلام في جذورها، ولا أدلّ على ذلك من كون اتفاقات أبراهام بعد مرور سنوات عليها لم تردع حكومة إسرائيل عن الضمّ الزاحف والمتسارع، والمترافق مع أشرس تنكيل بحياة الفلسطينيين، وهو ما أنتج ردّ فعل تلقائياً، فصارت الحالة الفلسطينية – الإسرائيلية أرض حربٍ لا يُعرفُ كيف تهدأ.
الصورة الآن هي التالية: تبلوَر إجماع فلسطيني على استحالة بلوغ تسوية حتى بما هو أقلّ بكثير ممّا كان معروضاً في بدايات أوسلو، وتبلورَ في إسرائيل إجماع موضوعي على نهج أبراهام، مدعوم بإجماع الإدارتين الأميركيتين. وتبلور لدى دول الإقليم والعالم وعيٌ لانعدام فرصة البدء بمسيرة سياسية جديدة حتى لو قيل ما قيل عنها في موسم الاستعداد للانتخابات الأميركية المقبلة.
الفلسطينيون يرون كلّ هذا. يرون جيشاً نظامياً مدجّجاً بالسلاح والمعدّات يملأ أرض الضفّة الضيّقة، بحثاً عن شابٍّ نفّذَ عملية قتالية، وجيشاً آخر يطوّق غزّة ويفرض عليها حصاراً يبدو كما لو أنّه أبديّ. ويواجهون مستوطنين يمتلكون قدرةً على فتح جبهة تنكيلٍ وحرقٍ وقتلٍ واقتلاع أشجارِ في كلّ قريةٍ فلسطينية. فيما أراضٍ مملوكة للفلسطينيين تحوّلت إلى مجرّد احتياطيٍّ لمشاريع استيطان لا حدّ لها، ولحلّ ضائقة السكن في المدن المكتظّة.
غير أنّ للفلسطينيين ما يحمون به أنفسهم. فلديهم كثافةٌ  بشريّةٌ تزيد ولا تنقص، وخرّيجو جامعات ومدارس ومعاهد، بما يجعل المستوطنين والجيش المحتلّ أقلّيةً غير قادرة على السيطرة.

الفلسطينيون يبنون كلّ يوم مدرسةً ومعهداً وكلّيةً وعيادة. يبنون حياتهم المتجذّرة في أرض وطنهم. إنّهم شعبٌ ومجتمعٌ حيويّان قويّان، ولا أغالي إن قلت إنّ أضعف ما فيهما هي الطبقة السياسية المنقسمة على نفسها، وعلى قضيّتها، وعلى شعبها.
إنّها طبقة مستهلكة انتحلت وضع واجهة هشّة لشعب منتج هو كلمة سرّ بقاء قضيّته وحقوقه، وهو أيضاً الأكثر جدارةً بالتطبيع مع الحياة والتحمّل والصمود. لهذا لا أمل لإسرائيل في أن تهزمه.