حتى كتابة هذه الكلمات، لم تكن الفصائل الفلسطينية التي اجتمعت في العلمين في 30/7/2023 قد توافقت على تشكيل لجنة لمتابعة، عملها بالقرار الوحيد الذي خرج به الاجتماع. ويبدو أن هناك مزاحمة على عضوية اللجنة، مما يؤشر، مرة أخرى إلى طبيعة العقلية الفصائلية لدى البعض، والإصرار على تسلق المواقع والمناصب، ولو أدى ذلك إلى عرقلة الأمر ولعل ما يشجع هذه الظاهرة، هذه القدرة العجيبة لدى الفصائل الفلسطينية على التلاعب بالألفاظ، والقرارات، و«تدوير الزوايا»، والالتفاف على الجمل والكلمات، بحيث تبدو وكأنها توافق وطني، بينما الواقع يؤكد أنها تعبير عن عجز الوصول إلى هذا التوافق. ونعتقد أن التجربة المرة للحوارات الوطنية العديدة، شاهد على ذلك.
في كل الأحوال، إن التأخر في تشكيل لجنة المتابعة، لسبب الخلافات على عضويتها، مؤشر سلبي، لا يدعو إلى التفاؤل، خاصة وأن أمام اللجنة، كماً كبيراً من القضايا، ومساحات واسعة تفصل بين الآراء، عليها أن تبذل جهوداً مضنية لجسرها، والوصول إلى ما يمكن أن تسميته توافقات وجوامع مشتركة، توفر الفرصة أمام المسيرة الوطنية للتقدم خطوات ملموسة إلى الأمام.
وإذا ما عدنا إلى الكلمة الافتتاحية للرئيس أبو مازن في اجتماع العلمين، نلاحظ أنه أكد على «الثوابت» الوطنية، كالدولة الفلسطينية، بتعريفها المتوافق عليه، وحقها في العضوية العاملة في الأمم المتحدة، والخلاص من الاحتلال والاستيطان، وغير ذلك من المواقف التي ترتقي إلى مستوى المواقف الشعاراتية، لكن الرئيس أبو مازن، في خطابه الافتتاحي، تجاهل قرارات المجلسين المركزي والوطني، باعتبارها أساساً لاستراتيجية كفاحية جديدة، أقرتها المؤسسة التشريعية الفلسطينية العليا، وأعاد التأكيد على «اتفاق أوسلو»، من خلال التأكيد على الاتفاقات الموقعة والملزمة للجانب الفلسطيني، كما أعاد التأكيد على «المقاومة السلمية» ومن دون أي تعريف عملي لهذه المقاومة، كما ربط بين إنجاز الانتخابات وضرورة إجرائها في القدس، دون أي اقتراح من شأنه أن يزيح العقبة الإسرائيلية في القدس، كما يراها الخطاب. كذلك أعاد الرهان على الوعود الأميركية، من خلال الرهان مرة أخرى على «حل الدولتين»، الذي لا مؤشرات راهنة تؤكد قرب ولادته، أو حتى موعد ولادته.
وبالتالي، كل شيء بقي معلقاً:
• «حل الدولتين» معلق على القرار الأميركي.
• الانتخابات معلقة على «الموافقة الإسرائيلية على إجرائها في القدس».
• مقاومة الاحتلال معلقة على «المقاومة السلمية»، والتي لا تعريف لها.
• والعلاقة مع دولة الاحتلال معلقة على «اتفاق أوسلو»، وتفاهمات «العقبة – شرم الشيخ»، التي لم يبقَ منها سوى التزام السلطة، بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، ضد «العنف والإرهاب والتوتر والفوضى».
أي أننا أمام استراتيجية سياسية تقوم على الرهان على العامل الخارجي، وتستبعد العامل الذاتي، أي الحركة الشعبية، لذلك تراها لا تهتم لا بتأطير هذه الحركة، ولا بتنمية قدراتها، بل على العكس من ذلك تلجأ إلى كل الأساليب التي من شأنها أن تضعف هذه الحركة في جوهرها، من خلال الهيمنة البيروقراطية على المؤسسات النقابية والاجتماعية، وتعطيل قرارات المؤسسة التشريعية، وشلّ قدرات المؤسسة التنفيذية، وإحلال الهيمنة الفردية بديلاً للشراكة الوطنية، وبديلاً لدور المؤسسات.
وإذا ما كانت هذه السياسات، تدل من جهة في جانبها الداخلي والتسلطي على الحالة الشعبية، علامة قوة وقدرة على الهيمنة، فإنها من جهة أخرى، وفي تعاملها مع العنصر الخارجي، إنما تدل على حالة ضعف وتردد، تصل أحياناً إلى العجز الكامل على رد الفعل الميداني، فتلجأ لتغطي على ضعفها إلى استجداء «المجتمع الدولي» والتذلل للولايات المتحدة، في وقت هي تدرك فيه جيداً، أن اللجوء إلى عنصر «المجتمع الدولي»، إنما يعتمد على ميزان القوى، وأن الضعيف صاحب الميزان المختل لصالح غيره، لا يمكنه الضغط على الخارج، بما يستجيب لمطالبه وتطلعاته، لذلك تبقى نداءات القيادة السياسية للسلطة في طلب إسناد الخارج لها، صرخات في وادٍ ليس إلا، أقصى ما يمكن أن يقدمه هو الصدى الأجوف لتلك النداءات.
وإذا كانت استراتيجية السلطة في الضفة الفلسطينية، تقوم على الرهان على العامل الخارجي، وتتجاهل العامل الذاتي والمحلي، فإن سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، وكما قدمت نفسها في اجتماع الأمناء العامين، تفتقر إلى الاستراتيجية الواضحة والصريحة، وتقوم سياستها بدلاً من ذلك على إطلاق الشعارات وتبديلها، بين فترة وأخرى، في لعبة تكتيكية تشكل شعارات المقاومة سقفاً وغطاءً لها.
• فهي تارة مع الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 67، وتارة مع الدولة الواحدة على كامل فلسطين التاريخية.
• وهي تارة مع المفاوضات، وتارة أخرى ضد المفاوضات، حتى من حيث المبدأ.
• وتارة مع الشرعية الدولية، وتارة أخرى ضد الشرعية الدولية.
• وتارة تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وتارة تراهن اعترافها هذا بالمنظمة، بدخولها المنظمة ونيل «حصتها» منها بما يتناسب مع حجمها.
• وهي مع المقاومة، خياراً وحيداً، وتارة ترهن عملها المقاوم بالظرف الإقليمي.
• كذلك تتبع سياسات ملتبسة، لا توفر لها تفسيراً مقنعاً، كالقبول بمرور المساعدات القطرية عبر مطار بن غوريون، والقبول بعلاقات اقتصادية مع الجانب الإسرائيلي (شكل من أشكال تطبيقات أوسلو)، ومع حل قضية البطالة في القطاع، من خلال «تنظيم» العمالة الفلسطينية من القطاع في إسرائيل.
وهي وإن كانت تدعو لوقف التنسيق الأمني، إلا أنها بالمقابل تلتزم قواعد الاشتباك القائمة مع الاحتلال، وفقاً لتفاهمات يلعب الجوار العربي دوراً في صياغتها.
وهكذا ستجد لجنة المتابعة نفسها، باختصار بين موقفين يتنازعان السلطة، تحت شعارات وسياسات متنابذة، من شأنها أن تعرقل الوصول إلى توافقات عملية وقابلة للتطبيق.
فلجنة المتابعة، هي صيغة أخرى من صيغ متابعة الحوار، الذي افتقر إليه اجتماع الأمناء العامين (30/7)، والذي اقتصر على إلقاء الكلمات، فتحول إلى مجرد منصة للخطابة.
وعندما نقول متابعة الحوار، فمعنى ذلك أن الاجتماع للعودة إلى نقطة الصفر، منطلقاً لأعمال «المتابعة»، يبقى احتمالاً قائماً من شأنه أن يعيد إغراق أعمال «المتابعة» في بحر من الخلاف.
وهذا ما يدعونا إلى التأكيد على التالي" كوجهة نظر لإنجاح أعمال «لجنة المتابعة».
• أن تتشكل من المستوى المتقدم في تمثيل الفصائل، أي من ممثلي الصف الأول (مكتب سياسي كحد أدنى)، ليتمتع أعضاؤها بصلاحية اتخاذ القرار الملزم لمن يمثلون، حتى لا تتكرر تجربة الجزائر المعروفة.
• أن تكون اللجنة نفسها صاحبة الصلاحية في اتخاذ القرار، وأن يكون قرارها ملزماً لفصائل العمل الوطني، وأن تستبعد لعبة «التوصيات والاقتراحات»، حتى لا تتحول «اللجنة» إلى مائدة للثرثرة، إلا إذا رأت «اللجنة» نفسها أن تكتفي بالتوصية، إذا ما رأت ضرورة التشاور مع الإطار الأول القيادي.
• أن تضع جدولاً لأعمالها، يقوم على الأولويات، تحديداً بما يلبي الحاجة الملحة، الميدانية، سياسياً وكفاحياً.
كما نقترح أن تكون أولى ثمرات أعمال اللجنة، إصدار بيان يشكل بديلاً للبيان الختامي الذي غاب عن أعمال الحوار في 30/7، واكتفى بالبيان الرئاسي.
قضايا لا تستطيع لجنة المتابعة تجاهلها
نعتقد أنن ثمة قضايا ملحة، لا تستطيع لجنة المتابعة تجاهلها منها على سبيل المثال:
• إطلاق سراح الموقوفين سياسياً، والاتفاق الملزم على تحريم الاعتقال على خلفية سياسية أو تنظيمية.
• تشكيل لجنة من أصحاب الاختصاص، لتنقية قوانين الحريات الديمقراطية، وسدّ الثغرات التي تتيح للسلطة التنفيذية النفاذ منها، للتغطية على قرارات الاعتقال السياسي.
• وضع حد للجدل حول توصيف المقاومة الشعبية، هل هي سلمية، أم عسكرية، أم شعبية شاملة، وإقرار تفعيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة، بما يعزز تمثيلها دون فيتو على أحد.
• الطلب إلى اللجنة التنفيذية، بالتعاون مع حكومة السلطة، وضع آليات لفك الارتباط بـ«اتفاق أوسلو» والتزاماته، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، عملاً بقرارات المجلسين الوطني والمركزي.
• وضع آلية لإنهاء الانقسام، وتوحيد المؤسسات الإدارية بين الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، في انتخابات عامة، رئاسية وتشريعية، للمجلسين التشريعي والوطني، بنظام التمثيل النسبي الكامل، حيث أمكن، وبالتوافق حيث يتعذر ذلك.
لا شك أن بإمكان لجنة المتابعة أن تشكل عنواناً لتجربة جديدة، تخرج الحالة الوطنية من المأزق السياسي الذي تعانيه، وتتقدم بها نحو المعافاة السياسية، على طريق الارتقاء إلى المستوى النضالي الوطني المطلوب، لمواجهة سياسات الحكومة الإسرائيلية القائمة على الضم الزاحف، ومواجهة الاستحقاقات الكبرى القادمة على القضية الوطنية، من بوابات الحالة الإقليمية.
الأمر رهن بالإرادة السياسية للأطراف المعنية، خاصة تلك التي تملك سلطة القرار.
وأخطر ما في تشكيل «لجنة المتابعة»، أن تكون تجربة أخرى تكرر الفشل، على غرار التجارب السابقة، بكل ما سيعكسه ذلك من خيبة أمل، وهبوط ذريع في ثقة الشارع الفلسطيني بقياداته ■