بالكاد مر شهر على وقوع الانقلاب العسكري في النيجر، الذي نجم عنه خلع الرئيس محمد بازوم، حتى كان العسكريون في الغابون يعلنون بدورهم الانقلاب على رئيسهم الذي كان لتوه قد فاز بولاية رئاسية ثالثة، بما يسلط الضوء الكوني بأسره على غرب أفريقيا، بل على القارة السوداء بأسرها، حيث يدور التساؤل حول إن كان أولاً ما حدث في النيجر وما تلاه في الغابون، وما سبقهما من انقلاب في مالي قاده أسيمي غويتا في آب 2020، ثم من انقلاب في بوركينا فاسو قاده إبراهيم تراوري في أيلول العام الماضي، يعبر عن توق شعوب القارة إلى تغيير واقعها الذي يشير إلى أنها رغم ما فيها من ثروات طبيعية هائلة، إلا أنها ما زالت تعاني من الفقر والجوع والمرض، أم أنه ليس أكثر من نقل للصراع الكوني بين الشرق والغرب - الشمال والجنوب، من ساحتي روسيا - أوكرانيا، ومن البر الصيني إلى القارة السمراء؟
ثم إن كان ما حدث في الدولتين العضوين في مجموعة «إيكواس» وهي إطار اقتصادي يضم 15 دولة تمثل غرب قارة أفريقيا، الذي يتحدث بمعظمه اللغة الفرنسية، منذ أيام الاستعمار الفرنسي، الذي ما زال يحتفظ على أي حال بقواعد عسكرية، لا يعدو كونه مجرد حدث داخلي، سرعان ما يتم تطويقه، داخلياً أو ضمن إطار دول غرب أفريقيا، وذلك لمنع انتشاره في تلك الدول، أو حتى في عموم القارة.
ورغم أن أفريقيا تعتبر من أكثر قارات العالم التي تشهد الانقلابات العسكرية الداخلية، إلا أنها شهدت خلال العقود الأخيرة «استقراراً نسبياً» في ذلك الإطار، وإن كانت شهدت صراعات داخلية من نوع آخر، بالتحديد صراعات إثنية وعرقية، بل وحروباً داخلية، كما وقع في الصومال، ليبيا، تشاد، وحتى نيجيريا، ثم من قبل السودان بين جنوبه وشماله، وخلال الحرب الباردة كانت القارة السمراء بمعظمها دولاً محتلة من قبل الاستعمار الأوروبي، وكانت فرنسا أكثر تلك الدول الاستعمارية، التي شملت بريطانيا في الشرق والجنوب، فرنسا في الشمال والغرب، ثم وبدرجة أقل كلاً من إيطاليا، إسبانيا، والبرتغال.
أما خلال الحرب الباردة، فقد دعم الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الشيوعية حركات التحرر الوطنية في القارة، التي قدمت أبطالاً وطنيين، مثل الكونغولي باتريس لومومبا، الزامبي جوشوا نكومو والزيمبابوي روبرت موغابي، وبالطبع الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، لكن بعد انتهاء الحرب الباردة، ولم تكن أفريقيا قد نجحت في إقامة مجتمعات ديمقراطية، أو أنظمة حكم مؤسساتية، فقد تحول رؤساء دولها، وإن كانوا مدنيين، إلى حكام مستبدين، بسبب ولائهم للغرب، خاصة فرنسا، ثم أميركا، حيث يساعدونها على نهب خيرات وثروات بلادهم.
يمكن القول بكل ثقة إن الحكام في معظم دول القارة السمراء هم مقبولون على الغرب، رغم أنهم يحكمون بشكل فردي، والانتخابات ما هي إلا لعبة في ظل غياب ظاهرة تداول الحكم، وحتى أن إقدام الغرب وفي المقدمة منه فرنسا وأميركا على التدخل عسكرياً في ليبيا قبل أكثر من عشر سنين، وقتل القذافي، وإسقاط نظامه التحرري، كان ليس بسبب نظامه في ليبيا فقط، بل بسبب تحريضه الدائم لأفريقيا ومحاولاته الجدية لتحريرها من التبعية للغرب، خاصة أن تأثيره القوي كان على دول جوار ليبيا، تشاد والنيجر بشكل خاص، وليس أدل على ذلك من نظام الحكم في الغابون، التي تم وضع حد لحكم رئيسها بعد انتخابه للولاية الثالثة مباشرة، علي بونغو، فالغابون منذ استقلالها عن فرسنا العام 1960، تولى رئاستها ثلاثة رؤساء فقط، منهم اثنان هما عمر بونغو الذي تولى الحكم منذ العام 1967 حتى وفاته العام 2009، حيث تولى بعده ابنه علي، وهو الذي أطاح العسكريون به قبل يومين بعد أربعة عشر عاماً في الحكم.
رياء الغرب، الذي يدعي الديمقراطية، يعتبر هؤلاء الرؤساء، شرعيين، وذلك لأنهم دمى بين يديه، يسمحون له بنهب ثروات بلادهم، وبالطبع، ليس هناك إمكانية لوصول أي رئيس معارض للغرب، أو شخصية وطنية تخدم مصالح شعبها للحكم، بسبب ضعف الوضع السياسي الداخلي، فالشعب ما زال يتوزع على القبائل، ولا ينتظم في أطر حزبية مدنية على أساس من المواطنة.
ما يدفعنا للذهاب بهذا المنحى هو أن حدثي الانقلاب في كل من النيجر والغابون، اللذين وقعا خلال خمسة أسابيع، توالياً، في الوقت الذي شهدت فيه انزعاجاً ورفضاً غربياً، لدرجة التهديد بالتدخل العسكري، خاصة من قبل فرنسا وأميركا، قد قوبلا باحتفاء شعبي داخلي، وحيث حاول الغرب إجهاض التغيير في الحكم في النيجر مستخدماً «إيكواس»، التي اتخذت فور إعلان الانقلاب جملة من الإجراءات ضد النيجر، كان منها إغلاق مجالها الجوي، وتعليق التبادل التجاري معها، مع التهديد المتواصل بالتدخل العسكري، إلا أن وقوف بعض دول المجموعة مثل مالي وبوركينا فاسو، ضد التدخل العسكري، وهما من دول جوار النيجر، التي يضغط عليها الحصار الخارجي كثيراً كونها دولة داخلية بلا موانئ بحرية، كذلك تدخل علماء نيجيريا، الدولة الكبرى في الغرب الأفريقي والتي يقع في عاصمتها أبوجا مقر إيكواس، قد حال حتى الآن دون ذلك.
أما الانقلاب في الغابون فقد جاء ليعزز وضع حكام النيجر العسكريين الجدد، ويشهد على فشل «إيكواس» في الحفاظ على رئيس النيجر محمد بازوم الموالي لفرنسا والغرب، ويشد من عضد النزوع الأفريقي الناشئ للتحرر الاقتصادي، بما يذكر بما شهدته في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من حركات تحرر سياسي، نجم عنها نشوء دول القارة المستقلة، ومظاهر سيادة الدول الحالي، لكن ذلك لم يكن كافياً فقد عاد الاستعمار بعد أن خرج من الباب للدخول من النافذة، وبعد أن كان استعماراً تاماً سياسياً وعسكرياً، صار يكتفي بكونه استعماراً اقتصادياً، يرهن ثروات البلاد لشركاته الخاصة، مع وجود قواعد عسكرية صريحة يدعي أنها موجودة بطلب من النظام الشرعي، وهي تحمي شركاته، أي نهبه لثروات الدول الأفريقية.
نهب ثروات النيجر والغابون يبدو كمثال فقط، والكل يعرف حجم الفقر الذي يعيشه شعب النيجر، رغم أنها تعتبر واحدة من أهم دول العالم إنتاجاً لليورانيوم، إلا أن شركة أريفا الفرنسية التي تقوم باستثمار ذلك المعدن المهم جداً للعالم لا تعطي دولة النيجر سوى 5،5 % من اليورانيوم المنتج، أما الغابون فتمتلك احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي ومن النفط، وهي واحدة من أهم خمس دول منتجة للنفط الخام في جنوب الصحراء الأفريقية.
أما البعد الكوني للصراع، فقد أكدته أميركا التي قامت في العام 2007، بإنشاء القوة العسكرية «أفريكوم»، حيث انتقلت أميركا منذ ذلك العام من مرحلة التعاون العسكري مع الدول الحليفة إلى مرحلة إنشاء القواعد العسكرية، وذلك لضمان السيطرة على منابع النفط الأفريقية التي تشكل 25% من المخزون العالمي، والذي تزداد أهميته لأميركا كون إمدادات النفط الأفريقي هي الأقرب للسواحل الأميركية.
أما الصين فهي أكثر دولة في العالم استهلاكاً لليورانيوم، والصين وروسيا تعتبران القارة السمراء واحدة من أهم مناطق العالم، وقد ظهر ذلك من خلال المؤتمر الروسي - الأفريقي الذي رعاه الرئيس بوتين قبل بضعة أسابيع، وكذلك في مؤتمر بريكس، الذي عقد في جنوب أفريقيا وشهد إضافة كل من مصر وأثيوبيا من بين ست دول أخرى للمجموعة الاقتصادية العالمية، التي تعتبر جنوب أفريقيا أحد مؤسسيها الخمس.
ما زال الأمر في بدايته، بصرف النظر عن بعده الكوني، فهو بلا شك حدث إقليمي كبير، ولم يعد رد الفعل مقتصراً على فرنسا أكثر المتضررين من هذه الانقلابات، وقد عبر جوزيب بوريل مفوض خارجية الاتحاد الأوروبي عن الوضع باختصار حين قال عقب انقلاب الغابون، بأن ما يحدث في غرب أفريقيا مشكلة كبيرة لأوروبا.
وأوروبا هي الشريك الأهم لأميركا في النظام أحادي القطب، الذي باتت دول كثيرة، في مقدمتها الصين وروسيا ترفضه صراحة وعلانية، ولا تتردد في القول إنها تسعى إلى تغييره.