سارت عدد من الدول العربية في مسار اتفاقيات "ترامب-ابراهام" عام 2020م بخطى حثيثة في إطار الاهتمام بالشؤون الداخلية الخاصة لكل دولة، وتحقيق مصالحها الاقتصادية كأولوية مع الإسرائيلي من خلال ما نصّت عليه هذه الاتفاقيات من" التفاهم المتبادل والتعايش، وكذلك احترام كرامة الإنسان وحريته، بما في ذلك الحرية الدينية" وفق الاتفاقيات.
ومن خلال ما نصّت الاتفاقيات عليه أيضًا من "بذل الجهود لتعزيز الحوار عبر الأديان والثقافات للنهوض بثقافة السلام ..."، وعبر مواجهة الدول العربية الموقعة مع الاحتلال الصهيوني "للتحديات المشتركة"! من خلال "التعاون والحوار"، ومن خلال " تطوير العلاقات الودية بين الدول"، وفي سعي الى "التسامح واحترام الأشخاص لجعل هذا العالم مكاناً ينعم فيه الجميع بالحياة الكريمة والأمل!".
وقال الموقعون أنهم يدعون"العلم والفن والطب والتجارة كوسيلة لإلهام البشرية وتعظيم إمكاناتها، وتقريب الأمم بعضها من بعض" وأيضًا من خلال: "التعاون في مجالات الرعاية الصحية والعلوم والتكنولوجيا والاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي، والسياحة والثقافة والرياضة، والطاقة، والبيئة، والتعليم!، والترتيبات البحرية، والاتصالات والبريد، والزراعة والأمن الغذائي، والمياه والتعاون القانوني".
ورغم بعض الإشارات الغامضة أو غير المباشرة التي قصد بها الطرف العربي أن تشمل الفلسطينيين إلا أن ذكرهم المباشر حُوّل لصفقة أو صفعة العصر لترامب، فلم يتم اشتمالهم تخصيصًا، أو بتوضيح للمطالب العربية-الفلسطينية، وإنما طغى خطاب العموميات بما يتعلق بالقضية الفلسطينية (المركزية!) أو تحقيق استقلال دولة فلسطين القائمة حسب الأمم المتحدة.
قال الموقعون بعمومية "أنهم يسعون لإنهاء التطرف والصراع بمنطقة (الشرق الأوسط)"، و"إقامة السلام والعلاقات الدبلوماسية والتطبيع الكامل للعلاقات ...". وأيضًا "تعزيز ثقافة السلام بين المجتمعين"! رغم أنه لم يكن بين الدول العربية الموقعة والاحتلال الصهيوني أي نزاع قائم مسلح أو غير مسلح لا في الماضي القريب ولا البعيد. وحيث سعى الموقعون حينها بما فيهم الاحتلال الصهيوني "لتحقيق رؤية للسلام والأمن والازدهار في الشرق الأوسط وفي العالم."!
في الاتفاقات الموسومة باسم ترامب وابرام أو ابراهام التوراتي الدخيل على المسلمين، لم يكن للقضية الفلسطينية أو اسم فلسطين أي ذكر بالمطلق، ما عنى بكل وضوح أن مرحلة مركزية قضية فلسطين أو تحرير فلسطين، أو حتى استقلال دولة فلسطين القائمة لكنها تحت الاحتلال قد أسدل عليها الستار وفقدت القضية أولويتها لدى النظام الرسمي العربي كما أسقطت قدسيتها وحيث لم تتم الإشارة لمدينة القدس أو المقدسات الإسلامية والمسيحية في كل فلسطين بتاتًا أيضًا.
رغم عمومية وغموض وإبهام كثير من النصوص التي لم تتفق، ولا تتفق حتى الآن مع ممارسات الاحتلال الصهيوني بما تفرضه مليشياته الاستيطانية الإرهابية مع الجيش والحكومة بالقوة والقتل وسرقة الأرض والاعتقال...الخ على الأرض إلا أنها حازت حيزًا واسعًا من المصطلحات المبهجة! لكن بلا معنى حقيقي لها مثل "الأمل"، "الأطفال" "السلام" "التقريب" "التعاون" "الرعاية" "الكرامة"! وهي بلا معنى حقيقي لأنها كلها –وأكثر- ساقطة في الممارسات الصهيونية في فلسطين.
وللمفاجأة الكبرى حينها التعاون بمجال"التعليم" الذي لم يُفهم معناه؟ الا أن كان المقصد إلغاء ما يتعلق بحق العرب في فلسطين من حيث الرواية التاريخية على الأقل! أو إلغاء الآيات القرآنية التي تتعرض للظالمين من لليهود، أو قبيلة بني إسرائيل القديمة المندثرة؟
عمومًا هذه اتفاقيات يتم تجاوزها إسرائيليا في فلسطين، وحتى أمريكيًا فلا تقع الإشارة لها كثيرًا، وأثبتت بالأمر الواقع فشلها الذريع في لجم الاحتلال الصهيوني عن الحد الأدنى من أفعاله الإرهابية والعدوانية والمتطرفة اليومية حتى اليوم وأثبتت بالمقابل النجاح الصهيو-أمريكي المؤقت -أو نأمل أن يكون المؤقت- في تحقيق الهيمنة الصهيونية على المنطقة من جهة وفي جر العرب لتجاوز فلسطين والقضية الفلسطينية حتى ثقافيًا وفكريًا.
بغض النظر عن الرأي في "اتفاقيات ترامب-ابرام"، وصفقة ترامب والتي حطمها الكيان الصهيوني بإفقاده الأمل وإسقاطه السلام بوضوح، فإن ما يرشح هذه الأيام عن المسار السعودي بعلاقاته المتوقعة مع الإسرائيلي يستدعى من القيادة الفلسطينية أولًا وأخيرًا التوقف مليًا والتفكر جيدًا بالخطوات القادمة في عصر ما بعد التفرد الأمريكي بالعالم القادم سريعًا، وفي عصر المملكة الحديث بقيادة الأمير محمد بن سلمان.
من المعروف أن المملكة العربية السعودية دعمت القضية الفلسطينية منذ نشأتها. وهي صاحبة كل المبادرات السياسية التي كان يتم إطلاقها في مراحل مختلفة لإنقاذ رأس منظمة التحرير الفلسطينية من السقوط، بل وحتى قبل ذلك في ظل الصراع الناصري المصري-السعودي فلقد وجّه الرئيس عبد الناصر قيادة حركة فتح لفتح العلاقات مع السعودية، ما يؤشر على مركزية هذا الدور حتى في عُرف المختلفين معه.
يتوجب التعامل مع المتطلبات والمصالح السعودية بعين الحذر والاهتمام والاحترام، وبمدى ارتباطها بفلسطين القوية أبدًا بعظمة قضيتها وشعبها، وباعتبارها غير قابلة للتجاوز بالمنطقة لأنها أي فلسطين هي ختم أو مفتاح السلام الحقيقي ومفتاح الحرب في إطار ما يُسرّب عن الصفقة الامريكية الإسرائيلية السعودية.
إن الوضع الحالي يضع على كاهل القيادة الفلسطينية أعباءً ثقيلة ما بين التحصن بالمبادئ والأهداف الوطنية التي لا يمكن التخلي عنها، وما بين النظر بمصباح منير لا يقطع أي علاقة مع دولة كبرى بالمنطقة مثل المملكة العربية السعودية من جهة، وبما لا يجعل من الصراع العربي-الصهيوني منتهيًا. حيث أن نهاية هذا الصراع لا تتحقق أبدًا إلا بتقرير المصير من جهة وعودة اللاجئين، وبتحقيق استقلال دولة فلسطين القائمة بالحق الطبيعي والتاريخي والقانوني والمعترف بها عضوًا بالأمم المتحدة عام 2012م.
إن شكل التعامل مع دول "اتفاقيات ترامب ابراهام" القائم فعليًا بمقاطعة هذه الدول أو تخفيض مستوى التعامل والعلاقات معها، قد لا يستقيم بمفهوم الواقعية السياسية، ولا يستقيم لاسيما في المسار السياسي المتدحرج اليوم ما بين إعادة التموضع وانقلاب الأفكار والمواقف، ولا يستقيم في ظل ما تفعله دولة العدوان الصهيوني بحكومتها الفاشية من جهة، ومن سعيها لتحقيق الهيمنة على الأمة وتطويق فلسطين من الجهات الستة، ورغم الرأي القيادي الفلسطيني بمجمله الذي مازال واضحًا بضرورة تطبيق مبادرة الملك عبدالله-المبادرة السعودية العربية من الألف الى الياء وليس العكس مع ضرورة الانسحاب الزمني الإسرائيلي المجدول من أرض دولة فلسطين.
أن النظرة أو السياسة الفلسطينية الجديدة يجب ألا تهمل بتاتًا الرواية العربية الفلسطينية العادلة، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه التاريخي ما كفلته الشرائع الدولية كلها، ويجب ألا تهمل تحرير دولة فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي. وألا تهمل أن يكون اسم دولة فلسطين القائمة تحت الاحتلال (وليس السلطة أو غيرها) صارخًا حين التوقيع على أية اتفاقيات عربية قادمة، لاسيما بعد أن فشل الكيان الصهيوني بالمطلوب منه بالاتفاقيات الترامبية، وقبلها حين حطّم اتفاقيات أوسلو، ما يجب أن ينعكس في مسار العلاقات الفلسطينية مع العالم الجديد، ومع المملكة الجديدة.