ليس المقصود هنا هو العمل البرلماني العربي الفلسطيني من حيث «الجدوى»، ومن حيث ما يمكن أن يحقّقه هذا العمل لجماهير الشعب الفلسطيني، خصوصاً للأهل هناك، ولشعبنا وقضية الشعب الفلسطيني في كلّ مكان، وإنّما المقصود فيما إذا كانت إسرائيل «ستسمح» باستمرار هذا «الحقّ» من عدمهِ في المستقبل، وذلك حسب التطوّرات، وكذلك التحوّلات التي تتسارع تِباعاً على مستوى «تنفيذ» إستراتيجية «الحسم» التي تبدو أنّها في رأس قائمة الأولويّات الصهيونية من الزاوية التي ينظر لها «اليمين» العنصري، وغالبية المجتمع السياسي في إسرائيل.
ومع أنّ غالبية لا يُمكن تجاهلها من قوى «الوسط»، ومن قوى «اليسار» في إسرائيل ستعارض، وستعترض على محاولات منع الفلسطينيين في «الداخل» من المشاركة في العمل البرلماني مستقبلاً، بألف طريقٍ وطريق.. إلّا أنّ هذا كلّه قد لا يمنع «نجاح» «اليمين» العنصري والفاشي من تحقيق هذا «الهدف»، خصوصاً إذا وجد هذا «اليمين» أنّ فلسطينيي الدّاخل يمكن أن يتجاوزوا حالة التفكُّك التي ما زالت قائمة، ويُمكنهم التغلُّب على الكثير من مشكلات الشرذمة للمجتمع الفلسطيني القائمة على قدمٍ وساق، وأصبحت مفضوحة ومُعلنة من قبل أوساطٍ صهيونية على رؤوس الأشهاد، ولم يعد بعض عُتاة «اليمين» العنصري والفاشي يتردّد بالحديث المباشر حولها.
وإذا عدنا إلى إستراتيجية «الحسم» الصهيوني فسنجد أنّها لا تتعامل مع تجمُّعات الشعب الفلسطيني بمعزلٍ عن بعضها البعض، وإنّما ترى أنّ «الحسم» عملية شاملة ومتكاملة، وتتعدّد وسائل وطرائق المخطّطات الصهيونية حيالها، ليس من منطلق «الحسم» هنا، وعدم الحسم هناك، وإنّما من منطلق الوسائل الأكثر «نجاعةً» لنجاح هذا الحسم.
في ضوء قلّة النقاشات والمُعالجات الفلسطينية الشاملة، وعلى المستوى الوطني الكلّي حيال هذه المسألة بالقدر المطلوب، وبالطابع العاجل والرّاهن والمُلحّ، فإنّ مثل هذه النقاشات والمُعالجات، لم تعد ضرورية فقط، وإنّما باتت مطلوبة وبسرعة ــ كما أرى ــ لأنّ الأمر ليس بعيداً، وهو ليس مستبعداً على الإطلاق، وهو قبل كلّ شيءٍ قادم لا محالة، في ظلّ تفاقم الأزمة الداخلية في إسرائيل، وتجاوز ليس فقط مسألة الطريق المسدود لحلّها، وإنّما استحالة مثل هذا الحلّ دون أن تحدث مُتغيّرات دراماتيكية على كامل المشهد السياسي والحزبي و»الأمني» في إسرائيل.
يوجد بعض التقديرات أنّ أولوية الحسم في الخطة الإسرائيلية تتركّز في المدى المباشر نحو هذا الحسم في الضفة الغربية أوّلاً، بعد أن يتمّ «ضمان» «تحييد» قطاع غزة في مرحلةٍ أولى، ونحو استثمار حالات «التطبيع» مع الإقليم العربي «لإذابة» الوجود الفلسطيني في الشتات بوساطة إنهاء وجود المخيّمات الفلسطينية بالكامل في سورية ولبنان، بعد أن تمّ إنهاء هذا الوجود في العراق، وباتجاه أن يتمّ صهر وإذابة المخيّمات في الأردن ليس بالتهجير أو التشتيت، كما حصل في سورية والعراق، وكما يحصل الآن في لبنان.. وإنّما باتجاه دعم هذه المخيّمات وتشجيع اللاجئين فيها على القبول بمبدأ «التعويض» مقابل زيادة إدماجهم في المجتمع الأردني، بما في ذلك الهوامش السياسية الأوسع، وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية في إطار دعمٍ دولي خاص للدولة الأردنية مقابل هذا الدعم، في حين ليس مطروحاً على اللاجئين في سورية والعراق ولبنان سوى التشتُّت والهجرة على أمل أن يلحق بهم «التعويض» لاحقاً.
هنا يبقى أمام خطّة «الحسم» الصهيونية التركيز إمّا على الضفّة، أو التركيز على «الداخل» الفلسطيني، وذلك في ضوء أنّ هناك من الإجماع حول دور القطاع ما هو أعلى وأكبر وأعمق من مجرّد التوافق الصهيوني عليه.
وهنا، أيضاً، فإنّ معظم المراقبين والمتابعين والمهتمين يرون أنّ الأولوية المُرجّحة في إطار خطة الحسم الصهيونية للصراع ستتركّز من الناحية المنطقية على الضفة أوّلاً، وذلك على اعتبار أنّ «الاستيطان» الزّاحف سيصل عند درجةٍ معيّنة إلى الضمّ الجارف، وأنّ وصول أعداد المستوطنين في الضفة إلى حوالى المليون مع نهاية هذا العقد وإلى مليون ونصف المليون في العقد التالي لهذا العقد سيمكّن إسرائيل من «بناء» دولة استيطانية خاصة في الضفة، (يهودا والسامرة) وسيكون دور جيش الاحتلال هو الفصل ما بين «الأهالي»، الفلسطينيين والإسرائيليين مع استمرار حشر التجمُّعات الفلسطينية في «معازلها»، وذلك بعد أن يتمّ ترحيل من تتمكّن إسرائيل من ترحيلهم، وتصفية كلّ من سيحاول منهم «التمرُّد» على خطّة الحسم الإسرائيلي هذه.
يُزكّي مثل هذا التحديد «المنطقي» لأولوية الشروع المباشر من الضفة قبل «الداخل» حقيقة «التخوُّف» «اليميني» والصهيوني عموماً من «الأخطار» المُحدقة بخطّة «الحسم» هذه فيما إذا وقعت إسرائيل تحت ضغوط دولية ربّما تفرضها المُتغيّرات الدولية والإقليمية، وفيما إذا نشأت عن «الواقع الفلسطيني المأزوم» من الظروف التي ستؤدّي إلى «الفوضى»، أو تجذُّر حالة المقاومة ضد الاحتلال، وخصوصاً إذا وصلت الأمور إلى مستويات غير مسبوقة، وغير معتادة من الانتفاضة في كلّ شبرٍ من الضفة، وذلك استناداً إلى نفس الوسائل والأساليب التي ستلجأ لها القوى الفاشيّة حيال مسألة الضمّ، وحيال المسجد الأقصى، وكلّ الاستفزازات التي تتضمّنها الخطّة.
كما أنّ الشروع المباشر بخطواتٍ نوعية كبيرة للحسم في الضفة، وانطلاقاً منها لن يمنع «اليمين» العنصري والفاشي من استمرار خططه ضدّ الأهل في «الداخل»، ويمكن أن تتمّ عمليات الحسم بالتوازي وليس على التوالي بالضرورة.
مع ذلك كلّه، فالذي أراه أنّ من الخطأ الركون إلى هذا التحليل اعتماداً على منطقيّته فقط، وذلك لأنّ «ليس كلّ منطقي هو علمي»، ولا تنطبق المقولات المنطقية على خصوصية الواقع الإسرائيلي مطلقاً، وهي مقولات مرهونة للتحوّلات والتطوّرات، وليست فقط مرهونة بدرجة منطقيّتها.
والخشية هنا هي أنّ «اليمين» الفاشي والعنصري قد يعطي الأولوية الفعلية لحسم الصراع مع الأهل في «الداخل» من الناحية الفعلية، ويُناور «إعلاميّاً» حول هذا الحسم في الضفة، ليس هذا فقط، وإنّما وبسبب اشتداد حدّة الصراع الداخلي في إسرائيل، وانتقال هذه الأزمة إلى أطوار جديدة، وبسبب مخاوف «اليمين» من أن يتمّ إدراج مسألة مشاركة الأهل في «الداخل» على جدول أعمال «المعارضة» الإسرائيلية، وذلك في ضوء حاجة هذه «المعارضة» إلى المشاركة «الفلسطينية» فيها، وليس فقط حاجتها إلى الصوت العربي.. بسبب كلّ هذه الرُّؤى والمخاوف فإنّ هناك على ما يبدو أولويّة «مخفيّة» في مخطّطات «اليمين» العنصري في إسرائيل يجب ألا تغيب عن أذهاننا ولا للحظة واحدة.
وخلاصة الأمر هنا هي أنّ المجتمع السياسي الفلسطيني، الذي يبدو غائباً عن مناقشات كهذه وعن الانخراط الفعّال فيها، ويبدو أنّه «منغمس» بالكامل وحتى أُذنيه بالمناقشات والانشغالات حول الكثير من تفاصيل الصغائر الفلسطينية مطالب بالكفّ عن الهروب والتهرُّب من مهمّة كهذه.
وفي النهاية ليس المهم استقراء الوضع بهدف تحديد حلقة الأولوية في إستراتيجية الحسم الصهيونية، بقدر ما أنّ الأهمّ، والأهمّ بكثير أن تنخرط النُّخب الفلسطينية في عشرات القضايا المُماثلة، والتي لها طابع الأولوية المُلحّة، وأصبح المرور عليها على هيئة «التصفُّح» السياسي، أو على طريقة أنّ القوى السياسية «لديها فكرة عن الموضوع»، و»مرّت عليها مثل هذه الأمور»، أو أنّها «أخذت علماً بما يجري، أو ما يتمّ الحديث عنه».. إنّما هو قمّة العجز، وقمّة الفشل، ونهاية «الحدُّوتة».