التقيت الرئيس محمد خاتمي ثلاث مرات، اثنتان في نيويورك وواحدة في طهران، خلال مؤتمر عن القضية الفلسطينية وسبل دعم الانتفاضة وحشد الدعم الإسلامي العالمي للشعب الفلسطيني. في سبتمبر 1998، كان اللقاء الأول بمدينة نيويورك، وكان فقط برتوكولياً للسلام، أما اللقاء الثاني في سبتمبر 2000 فكان للسلام والتعارف والحوار.. وكان مما لفت نظري فيه تواضع الرجل، وتقديره لكلِّ الحاضرين.. ففي هذا اللقاء دخل الرئيس خاتمي القاعة المخصصة بالحلسة في أحد الفنادق المجاورة لمبنى الأمم المتحدة بحيِّ منهاتن، حيث كنا ننتظره كقيادات إسلامية تجاوز عددها الثلاثين شخصاً من خلفيات مختلفة تعود أصولها إلى بلاد العرب والعجم وأبناء الحالية المسلمة، منهم: إمام لويس فرخان، والشيخ طه جابر العلواني، والأستاذ عبد الرحمن العمودي، والإمام محمد العاصي، والدكتور جمال برزنجي، والناشط المجتمعي نهاد عوض، والشيخ محمد الحانوتي، والدكتور ياسر بشناق...الخ
مرَّ الرئيس خاتمي بكلِّ هيبة ووقار يُسلّم على الجميع، ويمازح كلَّ واحد منهم ويسأله عن جنسيته باللغة العربية، كنا حوالي ثلاثين ضيفاً، نمثل جاليتنا العربية والإسلامية في أمريكا.
عندما ذهب الرئيس إلى المقعد المخصص له في صدارة القاعة، وجد أن ترتيبات المكان أعطته تميزاً وأفضلية على الآخرين لم يستحسنها، فطلب من مسؤول البرتوكول المرافق له تغيير ترتيبات وديكور مجلسه، بحيث يُصبح كالآخرين. لفتة بسيطة في شكلها العام، ولكنها كانت عظيمة الدلالة في أبعادها، وكانت درساً لكلِّ من حضر، وبينهم قامات دينية وحركية من أعمدة الجالية المسلمة وحركاتها الإسلامية.
في الحقيقة، إنَّ الكراسي لا تصنع تميزاً وقيمة لشخص مهما بلغت مكانته، إنما يصنعه علمه وأدبه واحترام الناس له.
بعد كلمته الرائعة التي أمتعنا فيها ببحر علومه، والتي عكست فصاحته وسعة اطلاعه ووعيه في علوم الدين والسياسة واللغة، والتي قدَّم فيها رؤيته لواقع الأمة الإسلامية، وما تنتظره شعوبها من طنجة إلى جاكرتا وحتى التي تقيم متوطنة في بلاد الفرنجة، وأنَّ هناك مستقبلاً لهذا الدين، وعلينا أن نقدم للعالمين مشهد الريادة لأخذ مكانتنا بين الأمم. ثم تناول في كلمته أيضاً الحديث عن سياسات الجمهورية الإسلامية الإيرانية وما يدور في المنطقة من صراعات، وما تحاول حكومته عمله لنزع فتيل تلك الأزمات.. وكانت هناك بالطبع إشارات للقضية الفلسطينية وما يتوجب على الأمة أن تقدمه لنصرتها؛ باعتبارها قضية المسلمين الأولى.
تحدث بالعربية؛ لأن غالبية الضيوف كانوا من أصول عربية، وكانت هناك ترجمة فورية باللغة الإنجليزية.
من المعروف عن الرئيس خاتمي أنه يتحدث الفارسية والعربية والإنجليزية، وله الكثير من الكتب التي صدرت بتلك اللغات الثلاث، ولعل كتابه (حوار الحضارات) الذي ردَّ فيه على أطروحة صموئيل هاتنجتون الموسومة بـ(صراع الحضارات) هو الأهم من بينها.
بعد ترحيب الحضور وتعقيبات قدَّمها البعض منهم.. انتهى اللقاء الرسمي، وانتقلنا إلى قاعة أخرى لتناول طعام الغداء، حيث جلس كلُّ واحدٍ منَّا إلى جانب صديق يريد أن يتجاذب معه أطراف الحديث. بعد دقائق وقبل أن يبدأ تقديم الطعام، دخل الرئيس خاتمي إلى القاعة، ونظر في الأماكن التي يجلس عليها الضيوف إلى أن وقع بصره على طاولة فيها متسع لشخص أو شخصين، فاستأذن وجلس بينهم.
نظر كلُّ واحدٍ فينا باتجاه الآخر، وقلنا بهذه النظرات الكثيرَ من الكلام حول تواضع الرئيس وأدبه وأخلاقه العالية.
وقبل مغادرة الفندق، تمَّ تقديم هدية لكلِّ شخص فينا كانت عبارة عن علبة أنيقة فيها (بلح – رطب مجفف) شهي المذاق.
في زيارته هذه الثانية إلى أمريكا، التي كانت على هامش دعوته إلى الأمم المتحدة لإلقاء كلمة له في الجمعية العامة، والذي قدَّم فيها أطروحته عن حوار الحضارات وضرورة التقارب بين الشعوب والثقافات، والتي حرص الرئيس الأمريكي بيل كلنتون على الحضور والاستماع للكلمة، والتي شهدت أيضاً حضوراً واسعاً لرؤساء دول عربية وإسلامية وأوروبية.
وفي طهران، عندما التقيناه أواخر التسعينيات في مؤتمر إسلامي كبير لدعم القضية الفلسطينية، كانت هناك أكثر من 500 شخصية إسلامية مرموقة جاءت من كلِّ فجٍّ عميق.. شارك الرئيس خاتمي في المؤتمر بكلمة، ثم كانت هناك لقاءات جمعته بوجوه الكثير من الحضور، وقد شهد كل من حضر تلك اللقاءات بثقافة الرجل الواسعة ورشده ووعيه السياسي وأدبه. كان الرئيس خاتمي بطبعه متواضعاً وبشوشاً، ولم نشهد على طريقة تعامله تلك النعرة من التكبر، التي نشهدها -عادة- عند أصحاب المقامات، حيث يتعمد البعض منهم أن يضع بينه وبين الناس حاجزاً، ويعطي لنفسه من الوجاهة أكبر من حجم علمه، متكئاً على ما أوصله إليه الكرسي، ظانَّاً أنه يصنع منه عظيماً أو يمنحه احتراماً -فوق قدره- بين الناس.
تذكرت هذه المشاهد، وأنا أرقب في أحد اللقاءات السياسية بقاعة رشاد الشوا في مدينة غزة، كيف ينظر البعض عندنا إلى مقامه أو منزلته من خلال الكرسي أو الطاولة التي يجلس عليها، وهل هو على المنصة أو في الصف الأول أو الثاني، معتقداً بأن هذه المواقع تصنع قيمةً للإنسان أو تمنحه قدراً فوق الآخرين.
للأسف، ليس هناك الكثير من بين قياداتنا من يقدِّم النموذج، ولا يوطن في ذهنيَّاتنا وثقافتنا القدوة والمثل؛ لأنَّ الكثيرين منهم -للأسف- قدَّمتهم حناجرهم أو تقدموا في مواقعهم من خلال النفاق وسياسات التسحيج ومسح الجوخ والكولسات التنظيمية، وأنَّ آخر شيء تفكر فيه وتضعه في حساباتها هو اعتبارات الكفاءة والتميز أو الأهلية والجدارة.
جالت هذه الأفكار في خاطري لكثرة مشاهدتي لأناس يرون أن الكرسي هو عنوان المكانة والمقام، وإذا لم يتقدم الصفوف في الاحتفالات والمهرجانات ويأخذ صدارة المجلس وكراسيه الأولى، فإنه يعتبر ذلك إهانة لكبريائه، وإساءة لما يراه في نفسه من أفضلية على الآخرين.
نعم؛ قد يكون هذا السلوك الذي أظهره الرئيس خاتمي واحترمناه عليه قد سبقته إليه الكثير من الشخصيات الإسلامية في عصور المسلمين الغابرة، وبالتالي هو لم يأتِ بجديد، ولكن الحقيقة أننا في هذا الزمان افتقدنا هذا النموذج والمثل، وأُصبنا بالخيبة من سلوكيات الكثير ممن هم رموز وقيادات إسلامية وشخصيات وطنية.. لذلك، وجدت نفسي استدعي هذا المثال المعاصر لتذكير الإسلاميين وغيرهم بما كانت عليه سلوكيات زعماء وقادة سابقين. نعم؛ في تاريخنا الإسلامي وعبر عصوره الزاهرة هناك الكثير من القامات التي قدَّمت أمثلة سبقت نموذج الرئيس خاتمي بكثير، ولكن هذه صورة لواقع شاهدته ولم أقرأ عنه، لذا هو أرسخ في ذاكرة الحضور، وأثره أقوى ونهجه أفعل.
باختصار.. الكرسي يا سادة يا كرام لا يؤخر ولا يُقدِّم، والذي يرفع قدر المرء -بين الله والناسِ- هو عِلمُ الرجل وأدبه، ومحبة الخلق له واحترامهم لسلوكياته وتقديرهم لمواقفه.
كان الرئيس خاتمي أحد أعلام التيار الإصلاحي في إيران، وكان في عهده الكثير من المحاولات لإصلاح "ذات البين" بين كيانات الأمة، لكنَّ حجم التآمر كان أكبر من قدرة الرجل وحده على صناعة التغيير والإصلاح.
كان الرئيس محمد خاتمي هو صاحب صفحات من العِلم والمكانة والتواضع والأدب، وقد استدعينا سيرته لجيل من الإسلاميين نأمل أن يكونوا في أخلاقهم آية، وأن تعلوا منازلهم بقيم وسلوكيات النهج والأثر.
وقديماً قالوا: ملأى السنابل تنحني بتواضع... والفارغاتُ رؤوسهنَّ شوامخ.