حميدتي مات.. ولكنّه قد يعود للحياة مرّة أخرى

لقطة الشاشة 2023-09-07 104407.png
حجم الخط

بقلم أحمد المسلماني

لم يشهد السودان استقراراً طويلاً على مدى تاريخه المعاصر. فعلى مدى أقلّ من 70 عاماً شهد 16 محاولة انقلابية، نجحت منها 6 انقلابات عسكرية. ولمّا تمّت الإطاحة بالرئيس عمر البشير، سرعان ما عاد الصراع السياسي.. وبعده جاءت الحرب.

شباب مع الانقلاب
عادت الانقلابات العسكرية تطلّ على إفريقيا من جديد، ففي آخر 3 سنوات وقعت 7 انقلابات عسكرية في 5 دول. أوّلها في مالي وأحدثها في الغابون.
من المثير أنّ هذه الانقلابات لم تكن تراجعاً عن الديمقراطية، فلم تكن هناك ديمقراطية لكي يتمّ الانقضاض عليها، وحظيت بتأييد شعبي كبير، ولا سيّما من الشباب الإفريقي.
عانى الشباب من الإحباط والفشل وانعدام الأمل، إذ لا عمل ولا أمن، ومن لم يستطِع الوصول إلى سواحل المتوسط لركوب قوارب الموت، كان عليه أن يواجه الموت البطيء في بلدان شهدت نخباً عسكرية ومدنية متنافسة ومتصارعة.. وجميعها فاشلة.
قال لي نائب سابق في برلمان النيجر: كان الرئيس محمد بازوم شخصية مثقّفة وتمّ انتخابه ديمقراطياً، لكنّنا فوجئنا بحشود غير مسبوقة من الناس خرجت بكامل إرادتها لتأييد الانقلاب. إنّهم لم يخرجوا ضدّ الرئيس فحسب، بل ضدّ المشهد بأكمله، وضدّ التاريخ. لقد بدا الأمر وكأنّه انقلاب على فرنسا، وأنّ الهدف هو الإطاحة بالرئيس ماكرون لا الرئيس بازوم.
لقد سمعت من طالب إفريقي يدرس في جامعة الأزهر رأياً وجيهاً في انقلاب الغابون: ماذا يمكن أن يفعل شعب الغابون، فقد حكمهم رئيس وابنه لمدّة 56 عاماً، حكم الابن 14 عاماً، وحكم الأب 41 عاماً؟ فهل تدخُّل الجيش وإطاحته بهذه الأسرة يسمّيان انقلاباً على الديمقراطية؟
 

الدعم السريع وسينما الرعب
غطّت أحداث إفريقيا قليلاً على أحداث السودان، لكنّ جرائم قوات الدعم السريع كانت كفيلة بأن يعود السودان إلى صدارة الأخبار.
حسب شهادة مفزعة لرجل أعمال سوداني يُدعى "يسلِم الطيب"، فإنّ ما تقوم به ميليشيات الدعم السريع فوق الخيال. تحدّث رجل الأعمال لموقع "ميدل إيست آي" عن احتجازه مع بروفيسور سوداني في العلوم الماليّة، ثمّ ذهابه لاحقاً إلى دورة المياه المشتركة ليجد جثّته ملقاة في مدخل الحمّام بينما يحيط بها الدم.
روى قصصاً عن أشخاص قتلتهم عناصر الدعم السريع كأنّهم حفنة من الجرذان، حتى إنّ أحدهم تمّ قتله لأنه التفتَ للخلف لكي يتحدّث طالباً الرحمة. وقد جرى إجبار عدد من الأطبّاء والمهندسين المحتجزين على ارتداء الزيّ العسكري، وجرى نشر مقاطع لهم باعتبارهم رتباً عليا في القوّات المسلّحة!
أدّت جرائم الدعم السريع إلى تدمير قطاعات واسعة من المجتمع، وإلى زحام هائل من اللاجئين والنازحين. وحسب اليونيسيف فقد أُجبر 2 مليون طفل على مغادرة منازلهم، وفي كل ساعة يخرج 700 طفل سوداني إلى العراء حيث الجوع والخوف. وقد روى عدد كبير من الأطفال وقائع مروّعة لقتل عائلاتهم أمام أعينهم.

الدم.. والكنز
حين أسّس عمر البشير ميليشيا الدعم السريع، كان ذلك بموجب معادلة بسيطة: الذهب مقابل القصر، أي تتولّى الميليشيات حماية القصر الرئاسي، تارة من دارفور وأخرى من الخرطوم، مقابل عطاءات الذهب من مناجم السودان السائبة.
ولمّا زادت احتمالات سقوط النظام، ذهب البشير إلى روسيا ليطلب عوناً آخر. ففي 2017 التقى البشير الرئيس بوتين في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود. وحسب خبراء غربيين كانت المعادلة هي قاعدة بحريّة روسية على البحر الأحمر مقابل حماية النظام، وبعد قليل كانت مجموعة "فاغنر" في السودان.
وقتها قال لي سفير سوداني سابق: اصطحبتْ "فاغنر" معها عدداً من الجيولوجيين الروس. لم يتعامل الجيش مع "فاغنر"، وإنّما حصر البشير التعامل بين الدعم السريع و"فاغنر"، وأصبح الذهب مسؤولية مشتركة بين طرفين كلاهما من خارج مؤسّسات الدولة.
قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: من حقّ السودان الاستعانة بـ"فاغنر". وطبقاً لتحقيق محطة CNN الأميركية، فإنّ بدايات التعاون بين نظام البشير و"فاغنر" كان عام 2014، وكان ذلك ضمن رؤية روسيّة أكبر ترى أنّ الذهب الإفريقي هو الحلّ لمواجهة العقوبات الغربية التي فُرضت بعد ضمّ القرم، ثمّ العقوبات التالية بعد حرب أوكرانيا. وفي السودان اعتمدت "فاغنر" على الدعم السريع في هذه المهمّة. وبعدما كانت مهمّة "فاغنر" حماية شركات التعدين الروسية في السودان، أصبحت مهمّتها حصاد الذهب بالتقاسم مع "حميدتي".
نفت موسكو تورّطها في نهب ثروات إفريقيا، وقالت إنّها تدعم ولا تنهب، لكنّ زيارة "حميدتي" روسيا عام 2022 والتطوّرات التالية أعادت النظريّة الأولى إلى الواجهة من جديد.
تتّهم وزارة الخارجية الأميركية "فاغنر" بتسليح قوات الدعم السريع بصواريخ أرض-جو، وأنّ خطّ إمداد عسكري لـ"الدعم السريع" يأتي من تمركز "فاغنر" في إفريقيا الوسطى على حدود السودان.
إذا كان تحقيق شبكة CNN دقيقاً، فهل تستمرّ هذه المعادلة؟ ثمّة متغيّر مهمّ ربّما يعدّل من هذا السياق، وهو رحيل "بريغوجين" ونائبه وكبار قادة "فاغنر" في حادث الطائرة الشهير. فهل يفقد "حميدتي" الدعم؟ وإذا ما أضفنا إلى ذلك أنّ روسيا تريد قاعدة بحريّة على البحر الأحمر، فهل تذهب موسكو للتفاهم مع الجيش: القاعدة البحرية مقابل "الدعم السريع"؟

خروج البرهان وعودة المخابرات
شهدت الآونة الأخيرة صعوداً للجيش على حساب قوات الدعم السريع. فقد غادر رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان مقرّ القيادة العامّة، وزار ثكنات للجيش داخل السودان، ثمّ غادر إلى مصر حيث التقى الرئيس السيسي في مدينة العلمين الجديدة، ثمّ زار جوبا والتقى سيلفا كير رئيس جنوب السودان، وحسب صحيفة "سودان تريبيون" فإنّه سيزور قطر والكويت في الشهر الجاري.
مع خروج البرهان عادت الشرطة السودانية أكثر قوّة خارج الخرطوم، واستعادت المخابرات دورها السابق بعدما دعت المجنّدين السابقين في "هيئة العمليات" إلى العودة للخدمة وإعادة تأسيس قوّتهم الخاصة، التي كانت تتألّف من 13 ألف مقاتل.
كانت الهيئة قد أُسّست عام 2005، وفي آخر أعمالها كانت تقوم بتأمين الحدود والنفط. وبعد حلّها تسلّمت أعمالها قوات الدعم السريع. ومن شأن عودة الهيئة للعمل أن تضعِف كثيراً من قوات حميدتي.

المرحوم حميدتي
في نهايات شهر تموز 2023 قال رئيس حزب الأمّة السوداني مبارك الفاضل المهدي إنّ حميدتي قد مات. وروت مصادر سودانية أنّه أُصيب إصابة خطيرة، ثمّ تمّ نقله إلى "مستشفى شرق النيل"، حيث تمّ تخصيص الأدوار العليا له، وتمّ استحضار أكبر جرّاحي السودان له على الفور، لكنّه مات في وقت لاحق.

في مقابلة تلفزيونية قال السفير إبراهيم محمد أحمد سفير السودان في ليبيا إنّ "حميدتي قد قُتِل، وهذا مؤكّد بنسبة 100%، ومن الآن يجب أن نقول "المرحوم حميدتي" ونقرأ له الفاتحة". ولمّا سأله المذيع: وماذا لو ظهر بعد ذلك؟ قال السفير: "يبقى البعادي". والبعادي أسطورة سودانية تقول إنّ بعض الناس يموتون ثمّ يحيون من جديد، ويقال على الشخص الذي مات ثمّ عاد للحياة إنّه "بعادي"!
ثمّة أسطورة سودانية أخرى تسمّى "أبا لمبة" أي "أبا لمعة"، وهو شخص يظهر بالليل، ويضلّل الناس في الطريق، فيرشدهم إلى الطريق الخطأ. ويبدو السودان وكأنّه عاش عقوداً طويلة أسيراً لظاهرة "أبلامبا". وإذا كان من خريطة طريق جديدة، فأوّلاً لا بدّ من القضاء على "أبلامبا". المرشدون إلى الطريق الخطــأ وميليشيات المجرمين لن يقطعوا طريق الحياة.