السعودية/ إسرائيل: تطبيع أم اتفاق سلام؟

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلبم رجب أبو سرية

 

 

 


بقدر ما من المغامرة، يمكننا القول إن حديث التطبيع بين إسرائيل والسعودية قد بدأ، منذ اللحظة التي تم توقيع اتفاقيات أبراهام فيها، وذلك في العام 2020، ذلك أن الطرفين الإسرائيلي والأميركي رغم ما اعتبراه من تحقيق لانجاز غير مسبوق، سعى عبره الرئيس السابق دونالد ترامب للبقاء في البيت الأبيض عشية الانتخابات الرئاسية، كما سعى من خلاله بنيامين نتنياهو إلى تجاوز عقدة بقائه رئيساً لحكومة تصريف أعمال غير مستقرة، اقتنعا بأن ذلك التطبيع ليس كافياً، للقول بأن إسرائيل قد بدأت تعيش "حياة" طبيعية في الشرق الأوسط، وأن ذلك بات مرهوناً بانضمام المملكة العربية السعودية لذلك الركب، لكن ورغم أن كلاً من المغرب والسودان قد لحقا بذلك القطار الذي سار على طريق عربية منحدرة، إلا أن توقعات الإسرائيليين والأميركيين معا، تراوحت بين تلك المتفائلة كثيرا، والتي عادة ما توظف في لعبة السياسة الداخلية، والانتخابات المرتبطة بها، وتلك المتشائمة جداً.
بقي ذلك مدة عامين كاملين، إلى أن اقترب موعد الانتخابات الأميركية التالية، حيث يبدو أن بايدن كما سلفه ترامب، بات بحاجة إلى انجاز سياسي ما، لعله يبقيه في البيت الأبيض لولاية ثانية، وهكذا بدأت الوفود الأميركية تتوالى على الرياض وتل أبيب، ثم بينهما رام الله وعمان، وحقيقة الأمر، أن حديث التطبيع بين إسرائيل والسعودية لم يعد خافياً ولا سراً، لكن حديثه ومقدماته لا توحي ولا بأي حال من الأحوال، بأنه يسير على طريق "أبراهام"، ولا أنه مجرد حلقة تالية، أو التحاق سعودي بذلك القطار المشؤوم.
وذلك يعود بتقديرنا إلى التكتيك الذي اتبعته القيادة السعودية المعروفة ليس بحنكتها فقط، وأيضا بهدوئها، وبعدها عن "الأكشن"، فالسعودية، بعد "أبراهام" أدركت بأنها ستتعرض لضغوط كبيرة، متواصلة، خاصة وأن كلا من الإمارات والبحرين، تعتبران من أقرب الدول إليها، فهما جارتان، وشقيقتان خليجيتان وعربيتان، بل وكانتا حليفتيها حين وقع الشقاق مع قطر، كذلك السعودية تقود محور الاعتدال العربي منذ زمن طويل، وهو يضم مصر والأردن وفلسطين، وهذه الدول كلها عقدت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، رغم الفارق بين السلام البارد الذي يربط مصر والأردن من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، والسلام الحار الذي يربط المغرب والبحرين والإمارات مع إسرائيل.
لكن السعودية تدرك في نفس الوقت، بأنها ليست مجرد دولة خليجية، بل هي زعيم العالمين العربي والإسلامي، وأنها ليست ملزمة بأن تقدم لإسرائيل ولا للبيت الأبيض أي هدية سياسية بلا مقابل، وليس حتى أي مقابل، بل مقابل باهظ يتناسب مع قيمة الهدية نفسها، والسعودية أولاً اتبعت سياسة التخفيف من حجم الضغط الناجم عن مطالبتها بالانضمام إلى قافلة "أبراهام"، فآثرت الصمت وعدم الدخول في ملاسنات خاصة وأن عهد ترامب كان في نهايته، ذلك أنه بعد أشهر معدودة، حل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، والتي خسرها الرئيس المحافظ، الصديق جداً لليمين الإسرائيلي ولنتنياهو شخصياً، ومر الوقت على "أبراهام" وهكذا نجحت السعودية أولاً، في تغيير مسار الحديث عن التطبيع معها، من مسار أبراهام إلى مسار آخر.
ثم قامت السعودية بعد ذلك، هذا رغم أن بايدن لم يبدأ عهده بمتابعة مسار التطبيع، بل بالتفاوض مع إيران، ثم بالانشغال في الحرب الروسية_الأوكرانية، وما تخللهما من انسحاب مذل لقواته العسكرية من أفغانستان، قامت السعودية بإغلاق الشقوق والثقوب، التي تفكر إسرائيل في إدخال أصابعها فيها، كما فعلت مع إطراف "أبراهام"، فسارعت السعودية إلى تطبيع علاقاتها مع إيران، وعقد اتفاقيات اقتصادية مهمة مع الصين، وصولا إلى عضوية بريكس، وأعادت نظام الأسد للجامعة العربية، وفي الوقت الذي تسارع فيه السعي الأميركي للتقدم في هذا الملف، فاجأت الجميع بتعيين سفير لها لدى دولة فلسطين، للتأكيد، على أن دولة فلسطين هي شرط للاستقرار في الشرق الأوسط، ولا بد أن تكون موجودة ضمن محفل الدول الشرق أوسطية.
وفي الوقت الذي بدأ فيه حديث التطبيع خاصة مع توالي وصول الوفود الأميركية للمنطقة، بدأت السعودية تعلن بهدوء ودون تعجل، وحتى "بالقطارة" شروطها ورؤيتها، التي تعني مطالبها أو الثمن المقابل لقبولها "تطبيع" علاقاتها مع إسرائيل، وهي لم تغلق الباب أولاً أو فوراً، حتى تتجنب الضغط، لكنها تعاملت بحنكة وروية، وما زال الأمر في بدايته، أي أن السعودية ليست مهتمة بنجاح بايدن في الانتخابات ولا ببقاء نتنياهو في الحكم، والمهم أن السعودية لم تكتف بالمطالب الخاصة بها، والتي يبدو قبولها على الجانب الإسرائيلي مستحيلا، والتي تركزت في مطلبين أساسيين، هما قبول أميركي بإنشاء مفاعل نووي مدني، ومنحها مكانة دول الناتو في تحالف عسكري أميركي معها، يضع حدا للطموح الإسرائيلي بإنشاء التحالف العسكري الإسرائيلي/الخليجي.
لم تكتف السعودية بالمطالب الخاصة بها، والتي تعني قبر مكانة إسرائيل كدولة تصر على التفوق العسكري على كل دول الشرق الأوسط، فرادى ومجتمعين، بل طالبت بتقديم ثمن مقنع للجانب الفلسطيني، وهي لم تحدده، وتركته للقيادة الفلسطينية، وهكذا اضطر الوسيط أو العراب الأميركي لإجراء عدة لقاءات مع القيادة الفلسطينية، كان آخرها الاتصال الهاتفي الذي أجراه وزير الخارجية انتوني بلينكن مع الرئيس محمود عباس، والسعودية بهذا ضربت عصفورين بحجر واحد، فهي إن توصلت لاتفاق بهذا الخصوص، تكون قد أخذت الموافقة والقبول الفلسطيني سلفاً، وإن لم ينجح الأمر لم تخسر شيئاً، بل هي نجحت في فتح باب التفاوض السياسي مع الجانب الفلسطيني، هذا الأفق الذي أغلقه اليمين الإسرائيلي منذ عام 2014، وإن كان ما يزال مع الأميركيين وليس الإسرائيليين.
والدخول الفلسطيني على خط التفاوض أراح السعوديين كثيرا، فالجانب الفلسطيني بدوره لم يكن عدمياً، ولا مراهقاً، بل طرح على الطاولة ما لا يمكن لأميركا رفضه، ولا لإسرائيل أن تقبله، وهو التزام إسرائيل بما سبق ووقعت عليه من اتفاقيات، وما سبق لإدارة بايدن أن تعهدت القيام به، وهو فتح القنصلية الأميركية في القدس ومكاتب م ت ف في واشنطن، وطالبت وهذا _بتقديرنا_ كمطالب لرفع سقف التفاوض، بان يجري الحفاظ على حل الدولتين من خلال منح فلسطين السلطة المدنية على المناطق ج مقابل السلطة الأمنية الإسرائيلية، وطالب الأميركيين بتمرير الطلب الفلسطيني في مجلس الأمن الخاص بالارتقاء بعضوية فلسطين في الأمم المتحدة من العضوية المراقبة للعضوية العاملة.
وحقيقة الأمر أن دخول السعوديين مسار التطبيع مع الوسيط الأميركي، بدأ بعد التحرر من الضغط خلال عهد ترامب، فيما كان وجود بايدن على الجانب الأميركي أفضل لهم، من حيث أن بايدن ليس ترامب، كما هي السعودية ليست الأمارات ولا البحرين، فبايدن يحتاج انجازا سياسيا للبقاء في البيت الأبيض، كما كانت حاجة ترامب، لكنه ليس صديقا لنتنياهو، وهو يسعى لإقناع اليهود الأميركيين بحرصه على إسرائيل، وليس على يمينها، لهذا فإن الجانب الأميركي لم يغلق الباب أمام إدخال السعوديين للفلسطينيين إلى المسار، كذلك الجانب الأميركي، ليس حريصا على بقاء نتنياهو وائتلافه في الحكم، لذا فإن الجانب الأميركي يمكنه أن يقترب كثيرا من السعوديين وحتى الفلسطينيين على جوهر الاتفاق.
وأميركا التي تنسحب منذ وقت من الشرق الأوسط، أو على أقل تقدير تعيد تشكيل وجودها، بحيث لا يبقى معتمدا لا على القواعد العسكرية ولا على إسرائيل، التي ما زالت تبتزها كثيرا مقابل ذلك، تواصل مسار التطبيع، بغض النظر عن ساكن البيت الأبيض، لتتحرر من عبء إسرائيل، من خلال دمجها في الشرق الأوسط، كدولة طبيعية، لا تعود بحاجة لأميركا من أجل بقائها، فيما حتى حالة العداء مع إيران، فإسرائيل هي التي تصر عليها، وليس بايدن.
يبقى بذلك الجانب الإسرائيلي، الذي بتقديرنا، سيكون العقبة الكأداء أمام اتفاق تطبيع متوازن، يكون اقرب لاتفاق سلام منه لاتفاق تطبيع بين دولتين غير متجاورتين، ولذا فإن نتنياهو سيواجه احتمال المفاضلة بين ذلك الاتفاق وبين الائتلاف الحالي، فإما أن يحل الحكومة ويشكل حكومة مع بيني غانتس ويائير لابيد، قد يكون هو شخصيا ضحيتها التالية على يد القضاء، أو أن يختار بن غفير وسموتريتش، ويتحمل مسؤولية تفويت فرصة الاتفاق مع السعودية، واحتمال إسقاطه على خلفية فقدانه لقوة الردع العسكرية أولا ومنعه عقد اتفاق سلام مع العالمين العربي والإسلامي ثانياً.