أمريكا مرضعة العرب.. والفطام لم يحن بعد

2021-06-19-10-55-33-661529-1624112876.jpg
حجم الخط

بقلم : كمال خلف

 

 

 

اذا كانت الولايات المتحدة دولة تمقتها الغالبية العظمى من الشعوب العربية لاسباب معروفة، على رأسها دعم إسرائيل والانحياز لها وتغطية كل جرائمها بحق الفلسطينيين والعرب، وليس اخرها تدمير العراق وقتل وتشريد الملايين من شعبه، واستهداف حضارته ووحدته الجغرافية والسكانية. الا ان امريكا مازالت المايسترو الضابط لايقاع المنطقة العربية، والنظام الرسمي العربي مازال خاضعا بالكامل لارادتها حتى في القضايا التي تناقض مصلحة دول وشعوب تلك الأنظمة، وحتى الاستثناءات المتمردة تعاني من الحصار والعقوبات والتهديد، ولم تجد البديل المجدي على الساحة الدولية لتستند اليه في تفلتها من القبضة الامريكية رغم الحديث الطاغي عن تغيرات عالمية وصعود اقطاب جدد.

في نظرة الى الاحداث الأخيرة في غير مكان في الاطار العربي، يمكن ادارك حقيقة ان نفوذ الولايات المتحدة في الفضاء العربي مازال قويا وفاعلا، وان استشعار تحولات في مراكز القوى الدولية، ينعكس على المنطقة العربية وان كان له وقواعد يستند اليها، الا ان التحول نحو تغيرات جذرية يبدو ما زال بعيدا. وقد يحتاج الى زمن أطول مما يتخيل البعض او يأمل.

ما زالت الولايات المتحدة قادرة على فرملة سياسات لدول عربية، وتغيير اتجاهاتها وفق مصالح واهداف محددة، وتنفيذ خطط ونفاذ قرارات وفرض إرادة. ان نظرية فقدان الولايات المتحدة لنفوذها في الشرق الأوسط تحتاج للكثير من التدقيق. اعترف اني كنت من اكثر المتفائلين بأفول حقبة الهيمنة الامريكية في المنطقة، ذاك تحول تاريخي يرفع حقب من الظلم عن شعوبنا المسحوقة، و نهج من الاجرام والقتل والتدمير والتفتيت ودعم الاحتلال ومصادرة القرار المستقل وسرقة الثروات الذي مارسته الإدارات الامريكية المتعاقبة بدون حساب.

سورية اليوم قد تكون مثال ومقياس، استطاعت الولايات المتحدة سلخ الجزء الشمالي الشرقي من سورية وتكوين ما يشبه الدويلة من فصائل كردية، ومن خلالهم استولت على ابار النفط والغاز ومساحات هائلة من الأراضي الزراعية التي تشكل سلة غذاء لسورية. ليس هذا فحسب، انما اقامت قاعدة عسكرية على مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية في ” التنف ” وحصنتها بمليشيات محلية من آلاف المقاتلين التابعين لها.

لم تتوقف عند هذا الحد وهي تحاول الان استنساخ نموذج لشرق الفرات في الجنوب السوري، ولا نستغرب ان نرى في الأيام القادمة قاعدة أمريكية في السويداء مهمتها حماية إسرائيل وتأمين انفصال جزء اخر من الجغرافية السورية.

كل ذلك يجري بأيادي محلية من السكان. قدرة الولايات المتحدة واستخباراتها هائلة في تحريك الداخل والسيطرة على حركة المجتمعات العربية، وتوجيه هذه الحركة بالاتجاه الذي يحقق أهدافها هي وليس اهداف تلك القوى المحلية، وهذه القدرة لا تقتصر على الداخل السوري، بل تشمل اغلب الدول العربية وغير العربية، وهذه القدرة لا تتمتع بها ولا أي قوة أخرى علي الساحة الدولية.

واذا كان المايسترو الأمريكي قد فشل في اسقاط النظام في سورية بالقوة عبر أدوات محلية وإقليمية، الا ان هدف اضعاف سورية وهو هدف الولايات المتحدة وإسرائيل قد تحقق، وهدف تجويع الشعب السوري وتحويله من شعب متصدر للقضايا العربية الكبرى، لشعب باحث عن لقمة العيش و بعض مقومات الحياة قد تحقق.

تدخل روسيا العسكري في سورية عام ٢٠١٥ منع تكرار النموذج الليبي، وافشل اسقاط النظام في سورية بالقوة، واستطاع مع الشركاء الاخرين في حلف المقاومة استعادة مساحات من الجغرافية السورية. الا ان الديناميكية الامريكية النشطة استطاعت استيعاب الفشل العسكري والاستمرار بفاعلية نحو تحقيق الأهداف في سورية باستخدام أدوات فتك متعددة الأوجه. بينما تقوقع الروس في قاعدتهم العسكرية في اللاذقية مراهنين على تفاهمات مع تركية لم تصل حتى الان الى نتائج، مع تأرجح اردوغان في لعبة مصالح بما هو اكثر من البراغماتية السياسية بين موسكو وواشنطن.

ولم تشكل الصين العملاق الاقتصادي والمالي البديل لسورية لمواجهة الحصار الأمريكي، ولم تتجرأ الشركات الصينية من بناء حجر واحد في سورية خوفا من العقوبات الامريكية.

ليست سورية المثال الوحيد. لبنان نموذج اخر، الولايات المتحدة امسكت بقراره السياسي، منعت لبنان من قبول أي شكل من اشكال التعاون مع أي دولة غير صديقة للولايات المتحدة ” الصين روسيا ايران “. الدول الصديقة ” الخليجية ” ممنوعة كذلك من تقديم يد العون لإنقاذ لبنان من ازمته الاقتصادية والمعيشية. ممنوع التواصل مع سورية لاعادة النازحين السوريين رغم التبعات الاقتصادية. ممنوع على الجيش اللبناني قبول أي هبة عسكرية او الحصول على أسلحة تصنع توازن مع إسرائيل. السفيرة الامريكية تتدخل في كل صغيرة وكبيرة يخص الشأن اللبناني ” قرارات الحكومة – القضاء – الامن – القطاع المصرفي – السياسية الخارجية – التعينات الخ. ثم تنشر سردية يروجها تابعين لامريكا في لبنان ووسائل اعلام محلية تسيطر على معظمها، ان البلاد تحت الاحتلال الإيراني وان حزب الله هو سبب كل المشاكل الاقتصادية والمعيشية والأمنية. مع حملة تحريض وشيطنة لا تتوقف ضد المقاومة وسلاحها خدمة لإسرائيل.

القوات الأمريكية والياتها وجنودها ينتقلون من الأردن الى العراق ومن العراق الى سورية عبر الحدود دون أي اعتبار لسيادة هذه الدول، الحوامات الامريكية العسكرية تدخل لبنان وتحط بالسفارة الضخمة في عوكر وتغادر دون ان يعرف لبناني واحد ماذا تحمل وما هدف قدومها.

تتصارع القوى المحلية داخل الدولة الواحدة ” السودان ” نموذجا، يحاول كل طرف كسب موقف الإدارة الامريكية. تعمد قوى تغيرية عربية الى محاولة تغير الحكم والوصول الى السلطة اول ما تقوم به هو طمأنة الأمريكيين او الحصول على دعمهم ” الاخوان المسلمين في مصر “. شاهدنا ثوار ليبيا يناشدون الناتو قصف طرابلس، والمعارضة السورية تستجدي واشنطن التدخل العسكري واحتلال دمشق. ولطالما لجأت أنظمة عربية للتطبيع مع إسرائيل فقط من اجل إرضاء ساكن البيت الأبيض. الدول العربية المستقرة ليست افضل حالا وان كان التدخل الأمريكي مستترا فيها وليس بهذا الشكل الفاضح.

المنطقة مازالت تحت التأثير الأمريكي الكامل والفاعل. ليس ثمة بدائل يعتد بها، القوى الدولية والاقطاب الأخرى لم ينضج دورها، مازالت محدودة التأثير، من المبكر اطلاق احكام من قبيل ان العرب يتفلتون من القبضة الامريكية، وان قوى مثل روسيا والصين قادرة على ملأ الفراغ. العرب باغلبيتهم الساحقة شعوبا وحكام يعلمون ان الولايات المتحدة سبب الكوارث والمصائب التي حلت بهم، وانها تجرهم دوما لتحقيق مصالحها ومصالح إسرائيل لا مصالحهم. ولكنهم منساقون لها، وباقون تحت هيمنتها اقله في المدى المنظور.