من حيث الشكل، لا توجد علاقة مباشرة ما بين مسلسل الانقلابات/الثورات في أفريقيا، والصعود غير المسبوق، لجماعة "بريكس"، بالذات بعد قمتها التاريخية في جوهانسبرغ، والتي تميّزت بـ"حجيج" لزعماء أكثر من أربعين دولة، ضاقت "بريكس" بمعظمها، واكتفت بالتوسّع بست منها فقط، أقلّه في هذه المرحلة. لكن في العمق، ثمّة "علاقة سببيّة" بين التطورات الأفريقية المتسارعة من جهة، وصعود "الجنوب العالمي -Global South" من جهة ثانية. إذ لولا نجاح الدول الوازنة في "بريكس"، الصين وروسيا، في بسط نفوذها فوق مساحات واسعة من القارة السمراء، وتنامي قدراتها على تقديم بدائل اقتصادية وأمنية وعسكرية، بل وتوفير مظلة سياسية لقادة أفريقيا الجدد، لما شهدنا على هذا المسلسل متعدد الحلقات من الانقلابات العسكرية المدعومة شعبياً على نطاق واسع، ولما كان بمقدور هؤلاء القادة إلقاء قفاز التحدّي في وجه الاستعمار القديم – الجديد، على النحو الذي شهدناه في بعض دول الساحل والصحراء على وجه الخصوص. ما يجري في غرب أفريقيا وساحلها وصحرائها حقل اختبار، ينجح للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة ونشوء نظام القطب الواحد، في تظهير ملامح نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب.
لكلّ انقلاب من الانقلابات التي شهدتها القارة خلال السنوات الثلاث الفائتة، قصته وحكايته، ولكل منها سياقاته السياسية والأمنية، وهذا أمر طبيعي ومفهوم، على أن ذلك لا يقلّل أبداً من شأن "المشتركات" التي تجمعها، وأهمها أربعة:
أولها، أنها في معظمها ولّدت زخماً شعبياً هائلاً، هي لم تأتِ نتيجة "ثورة شعبية"، ولكنها كانت الشرارة التي أشعلت سهلاً من الغضب الشعبي العارم، موجّه بالأساس ضد القوى الاستعمارية الغربية، وبالأخص فرنسا، التي لم تكتفِ بنهب وسلب خيرات هذه البلاد، وبعضها كما في النيجر، لأكثر من قرنين من الزمان، بل وما زالت تحلم بتمديد آجال السيطرة والنهب والسلب، لسنوات وعقود مقبلة. والحقيقة أن "انقلابات" أفريقيا الجديدة، ليست "نسيجاً وحدها"، فكم من انقلاب أفضى إلى ثورة سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة (ثورة 23 يوليو 1952 المصرية مثالاً ناصعاً)، وكم من انقلاب جاء على أكتاف ثورة، وغالباً لإجهاضها.
وثانيها، أن الهياكل "الديمقراطية" التي بنيت في هذه البلدان بعد عقود من "الاستقلال"، كانت هشّة للغاية، وزائفة في معناها ومبناها، انخرطت فيها قوى محلية "مُتَغَرِّبة"، نشأت في أحضان المستعمر، وغالباً لخدمة مصالحه وإستراتيجياته، وتعطي الغابون بشكل خاص مثالاً صارخاً على ما ذهبنا إليه، فـ"الديمقراطية الأداتية/الإجرائية" الزائفة شكلاً ومضموناً، هي الآلية التي مكّنت "آل بونغو، الأب والابن" من حكم البلاد لأكثر من نصف قرن، بقبضة من حديد وفساد، وتحت قشرة ديمقراطية، سرعان ما انكشف بؤسها وزيفها، ودائماً برضا وتصفيق و"هندسة" من المستعمر القديم، الذي ما زال جاثماً على صدر البلاد وشعبها وثرواتها.
وثالثها، إن بعض الأطر الإقليمية الأفريقية، المفترض بها تنظيم شؤون القارة أو أقاليم منها، خدمة للصالح العام، وفي مجالات الحياة والاقتصاد والمعيشة والأمن، وبالذات "الإيكواس"، ثبت أن لديها "ميولاً باريسية"، جعلت منها رأس حربة متقدّماً في حرب "رجل أوروبا المريض" للحفاظ على مستعمراته ومصادر ثراء شركاته ومفاعلاته النووية، فضلاً عن كون هذه الأطر، أثبتت أنها أكثر هشاشة من أن تصمد في وجه رياح التغيير العاتية التي تهب على القارة، فالانقسام داخل "الإيكواس" حول النيجر، بات ينذر بحرب إقليمية في قلب القارة، في حال أصرّ المجلس العسكري لدول المجموعة على "ركوب رأسه" والذهاب إلى حرب على النيجر، فلا يكفي أن تكون بعض الدول مؤيّدة لقرع طبول الحرب، فهناك دول أخرى، تنذر بقرع طبول حرب مضادة، فيما لو وقع المحظور.
ورابعها، إن الغرب يأبى أن يفارق عاداته القديمة – الجديدة، فمعاييره المزدوجة تفعل فعلها من جديد، فهناك انقلاب جيد، ويمكن العيش معه، ولا يلقى الإدانات المنبعثة من أعمق أعماق مشاعر الحرص على الديمقراطية وحقوق الإنسان (؟!) كما في الغابون، وهناك انقلاب سيّئ، شرير، يستحق تجريد الجيوش وشن الحروب والعزل والمقاطعة ومختلف أشكال "الشيطنة" كما في النيجر. نسي الغرب، ونسيت فرنسا، أن موقفهما "الناعم" من انقلاب الغابون، قد فرّغ موقفها الخشن في النيجر من أي معنى أو مضمون، وأن هذا السلوك المزدوج والمنافق قد هبط برداً وسلاماً على جنرالات النيجر.
والغرب في أفريقيا، كما في أماكن أخرى، ما زال يستحضر عند كل منعطف، قواعد لعبته القديمة: استعمار يسلّم استعماراً، واستعمار يرث استعماراً، لا رحمة مع "الحلفاء" إن ظهرت عليهم إمارات الضعف، كما في حالة فرنسا اليوم. حدث ذلك في منطقتنا في الخمسينيات والستينيات، عندما حلت واشنطن محل لندن وباريس في التحكّم برقاب أهل هذه البلاد، ويحدث اليوم، في المسعى الأميركي للحلول محل فرنسا في مستعمراتها القديمة، فيما الخلاف بين باريس وواشنطن (وبعض عواصم أوروبا) حول أفريقيا، يكاد يظهر للعلن، ويكاد السيد ماكرون يختنق بـ"الغصة" من تخاذل الحلفاء. هنا نفتح قوسين لاستحضار تجربة أخرى في "التخلي"، ولكن في لبنان هذه المرة، حيث يكابد السيد لودريان للقفز من فوق متاريس حلفائه في "الخماسية"، من ضمنهم واشنطن، وربما بجهد أصعب وأكثر تعقيداً من ذاك الذي سيبذله مع أطراف الأزمة اللبنانيين المحليين.
في مطلق الأحوال، ليس لأفريقيا ما تخسره إن هي جرّبت شقّ عصا الطاعة في وجه مستعمريها القدامى والجدد، ولا في وجه أدواتهم "والنظم" التي تمت هندستها في باريس. فلا تنمية تحقّقت رغم مرور 5-6 عقود على الاستقلالات الوطنية، ولا أنظمة حكم ديمقراطية حقيقية تلبّي تطلّعات شعوبها للحرية والكرامة. الظلام يخيّم على مدن البلاد الأفريقية المنتجة للنفط والغاز واليورانيوم، فيما الأضواء تجعل ليل مدن المستعمر نهاراً، ومن دون أن يرفّ لأحد جفن. لسنا من أنصار الانقلابات العسكرية، ولن نكون. ولسنا من أتباع نظريات تدخّل الجيوش في السياسة والاقتصاد، ولن نكون. لكن في دول فُرِّغت مجتمعاتها من عوامل التغيير وأدواته وحوامله، يبقى التغيير مرتبطاً بسلوك القوة الوحيدة المنظمة: الجيش، سواء أكان هذا التغيير للأحسن أم للأسوأ.
كما أننا لسنا من أنصار نظرية "المستبد العادل"، وما زلنا على قناعتنا بأن الديمقراطية وإن لم تكن نظاماً مثالياً، إلا أنها النظام الأمثل الذي اهتدت إليه البشرية حتى اليوم. ولكننا رغم هذا وذاك وتلك، لا نغمض أعيننا عن المؤشرات التي تدل على تحوّلات عميقة في "مزاج" الرأي العام العالمي، بالذات في دول الجنوب، الذي بات يقدّم هدفَي التنمية والاستقرار، مع مستوى معقول من الحوكمة، على تجارب "الانفلاش الديمقراطي" التي لم تجلب تنمية ولم تأتِ بالحرية، فكانت كمنبت، لا أرضاً قطعَ ولا ظهراً أبقى.
في هذا السياق، تبدو الصين نموذجاً أخذاً في الانتشار عالمياً، لا تستلهمه الأنظمة والحكومات كما كان في السابق لتبرير أنماط حكمها السلطوية، بل بات يتسلل إلى الرأي العام الذي سئم الفوضى والفقر والتخلّف، والبقاء في ذيل قوائم التنمية البشرية، وغالباً من دون أن يظفر بالحرية والديمقراطية، ولنا في عالمنا العربي وأفريقيا وآسيا الوسطى نماذج دالّة على ذلك، تجعل التبشير بموجة ديمقراطية جديدة مهمة صعبة للغاية، سيما أن الديمقراطية، تتعرّض لأكثر اختباراتها مصيرية في مواطنها الأصلية.
في هذه السياقات تستيقظ أفريقيا، توازياً وتزامناً مع صعود "الجنوب العالمي". صحيح أن "اللعبة" ما زالت في بواكيرها، وأنّ مآلاتها غير معروفة حتى اليوم، لكن الصحيح كذلك أن العالم الجديد أخذ يطل برأسه ثانية، من جوهانسبرغ ودول الساحل والصحراء والغرب الأفريقي هذه المرة، بعد أن كانت أوكرانيا والحرب فيها وعليها، أول الطَلْق للولادة الجديدة، التي من غير المستبعد أن تتم وتُستكمل على شواطئ تايوان وبحر الصين وبرّها.