ليس في العنوان أي محاولة للسخرية، فقد هبطت فعلا مركبة فضاء هندية على سطح القمر، في آب من العام 2023.
بالنسبة لي، لم يحسم هذا الخبر حيرتي بشأن حقيقة هبوط الإنسان على القمر، التي كانت تتعزز مع إطلاعي على فرضيات علمية طالما شككت بعملية هبوط «أرمسترونغ» الشهيرة على القمر، والأدلة التي كانت تعزز تلك الفرضيات، وهناك سلسلة محاضرات لعلماء روس بثتها محطة «روسيا اليوم» في برنامج رحلة في الذاكرة تؤكد ذلك، لكني قطعت الشك باليقين بعد استماعي لمحاضرة لعالم الفضاء المصري فاروق الباز، حيث أكد فيها أنه كان من ضمن الفريق الذي عمل على بعثات «أبوللو».
على أي حال، فرضية الفوتوشوب بشأن أرمسترونغ إذا كانت ممكنة قبل خمسين عاما، لم تعد ممكنة، اليوم، فأي طالب مدرسة لديه موبايل ذكي يمكنه التحقق منها، وهذه أخبار سيئة لعشاق نظرية المؤامرة، ولأصحاب نظرية الأرض المسطحة بشكل خاص.
كانت المركبة الفضائية السوفيتية غير المأهولة، وأسمها «لونا2» أول مركبة تهبط على سطح القمر في العام 1959، تبعتها الولايات المتحدة في مركبة مأهولة سمتها «أبوللو11» في العام 1969، أتبعتها بست حالات هبوط كان آخرها في العام 1976، وبعد عقود طويلة هبطت مركبة فضاء صينية غير مأهولة في العام 2013، وبذلك تكون الهند رابع دولة ترسل مركبة إلى القمر.
انطلقت «شاندريان 3» في 14 تموز، وهبطت بسلام في 23 آب، ضمن مهمة استكشافية لصالح منظمة البحوث الفضائية الهندية، وهي المحاولة الثانية، حيث فشلت الأولى وكانت في العام 2019.. والمثير أن مركبة فضاء روسية اسمها «لونا25» كانت قد تحطمت قبل أسبوع في نفس مكان هبوط «شاندريان». والأكثر إثارة أن تكلفة الرحلة الهندية بلغت 75 مليون دولار فقط، وهي الأرخص وبشكل لا يُقارن مع بعثات «ناسا»، فمثلا تكلفت مهمة «أبوللو 11» ما يعادل، اليوم، 264 مليار دولار. وقد تأخر وصول «شاندريان» لأكثر من شهر لأن المركبة اضطرت للدوران حول الأرض عدة مرات لاكتساب سرعة إضافية تكفي لوصولها للقمر.
هبطت المركبة في القطب الجنوبي للقمر، حيث يعتقد العلماء بوجود مياه وأكسجين وعناصر ثمينة هناك، وهي مزودة بكاميرات خاصة لإرسال صور للأرض.
وهذا الإصرار الهندي على النجاح ليس الأول من نوعه، فقد نجحت الهند في تصنيع قنبلة ذرية في العام 1998، بعد سلسلة إخفاقات، وبالرغم من الرقابة الأميركية الصارمة، حيث عمل فريق صغير جدا على استكمال تجارب التفجير النووي في «بوخران» ضمن ظروف سرية جداً وبالغة التعقيد كانت تفرض عليهم العمل ساعتين في اليوم فقط، وذلك للإفلات من رقابة القمر الصناعي الأميركي المكلف الرقابة على أي تجربة نووية، ومتابعة أي نشاط لأي عالم هندي.
ومع ذلك، لا تخلو الهند من المفارقات العجيبة والغريبة، فبينما تتسم الهند بالفوضى والعشوائيات، ونسبة كبيرة من الهنود تحت خط الفقر، وهناك مئات الملايين منهم لا يتوفر في بيوتهم مرحاض، مع ذلك هي من بين أولى الدول على مستوى العالم في مجالات التكنولوجيا والتصنيع وبحوث الفضاء.. وهي أكبر «ديمقراطية» في العالم، تمكنت من صهر مئات الطوائف والأديان واللغات في هوية وطنية جامعة.
وليست مصادفة أن يشغل «عبد الكلام» منصب الرئيس الحادي عشر للهند (2002 إلى 2007)، وهو عالم فضاء، عُرف باسم رجل الصواريخ الهندي، وهو ثالث رئيس مسلم للهند، وفي هذا يمكن استخلاص دلالتين على الأقل: الترفع عن الطائفية، والتوجه نحو العِلم من قبل رأس الدولة.
كان الشعب الهندي بأكمله وبكافة أديانه وطوائفه يتابع بقلق ويصلي بإخلاص لهبوط آمن لمركبة «شاندريان»، وكان رئيس الوزراء الهندي «ناريندا مودي» يتابع هبوطها أثناء اجتماعه مع قادة دول البريكس في جوهانسبيرغ وهو يرفع علم بلاده بفخر، وفي هذا يمكن استخلاص دلالتين أيضا: مكانة الهند الجديدة بعد انضمامها إلى نادي الدول الفضائية، ومكانتها مع الانطلاقة الجديدة لدول البريكس، المرشحة بقوة لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد.
الهند قبل ستين سنة كانت من بين أفقر الدول في العالم، وكذلك كانت الصين، وكوريا، وماليزيا، والبرازيل.. على الأقل كانت بمستوى مشابه لمصر والعراق.. انظروا بتحسر وقارنوا بألم بين أوضاع مصر والعراق وسائر بلداننا العربية، اليوم، وبين ما وصلت إليه تلك البلدان.
ما فعلته تلك الدول أنها آمنت بالعلم، واهتمت بالتعليم، واحترمت قيمة العمل.. أما بلداننا وشعوبنا العربية فلديها اهتمامات أخرى، ولكن إذا تحججت بالاستعمار والغرب الكافر، فأنصحك أن تنضم إلى نادي الأرض المسطحة.. هناك فقط تنمو وتزدهر نظريات المؤامرة.