على الرغم من أن بعض المعلومات الرئيسية ما زالت «طيّ الكتمان»، وعلى الرغم من أن الحديث يدور حول (تصوُّر عملي) للمصالحة، وهو الأمر الذي يمكن أن يفسر على أن هذا التصور يجنح نحو حلول مؤقتة وانتقالية، بل جزئية وتكتيكية، ورغم أن حلولاً من هذا القبيل بالذات يمكن أن تعتبر «إنجازاً» بحدّ ذاته إلاّ أن الأمر يحتاج إلى مناقشة وذلك لأسباب عدة.
السؤال الذي يحدد فيما إذا كان «الإنجاز» العملي الناتج عن تنفيذ «التصور» العملي يستجيب لإلحاحية الحالة الوطنية أو للاحتياج المطلوب هو فيما إذا كان هذا «الإنجاز» ما زال جزئياً لاعتبارات عملية، وان هذا الإنجاز سيمضي قدماً باتجاه المزيد حتى الوصول إلى المستوى المطلوب أم ان هذا «الإنجاز» بحدّ ذاته كافٍ في هذه المرحلة ويستجيب للمتطلب الوطني حتى بالحدود القائمة.
بعبارات أخرى فهل عدم الاتفاق على حلول جذرية ونهائية هو سبب هذا التوافق العملي المؤقت أم ان هذا التصور العملي هو المرحلة الأولى من التوجه نحو مصالحة تنهي الانقسام وتعيد الساحة الوطنية إلى حالة متماسكة وقادرة على مواجهة الأخطار والتحديات التي يفترض أنها هاجس وطني للجميع، وان مواجهتها هو الهدف المباشر للمصالحة؟ يبدو أن لا أحد في الساحة الفلسطينية قادر على الإجابة عن هذا السؤال، وان لا أحد مستعد للمجازفة في البحث عن إجابات شافية لها.
أغلب الظن (وليس كل الظنّ إثم) أننا أمام حالة فلسطينية جديدة يمكن أن نسميها بحالة «تعليق» حالة الانقسام وليس تجميدها، وليس إنهاء الانقسام وليس إدارة جديدة لحالة الانقسام.
حالة تحتاج من خلالها حركة فتح إلى تسويق الوضع الفلسطيني خارجياً باعتباره وضعاً واحداً وموحداً لا يسمح من خلاله لإسرائيل ولا يمكنّها من النفاذ إلى العبث في الساحة الداخلية عَبر بوابة الانقسام، وحالة تحتاجها حركة حماس للخروج من أزمتها المالية المستعصية والخروج من عزلتها الإقليمية دون أن يؤدي بها هذا الاحتياج إلى فقدان «مكانتها» الخاصة في السيطرة على القطاع.
المحور التركي القطري «زَيّنَ» لحركة حماس مزايا المصالحة بالحدود التي يتم الحديث عنها، وذلك حتى يتمكن هذا المحور من تبرير مواقفه أمام الإدارة الأميركية وللانسجام مع «تطبيع» العلاقات التركية الإسرائيلية، ولإثبات حسن النية من قبل هذا المحور وقبول مساهمته في دائرة التحالفات المتشكلة في منطقة الإقليم.
واستطاع هذا المحور أن يقنع قيادة الخارج لحركة حماس أن التظلل بالشرعية الفلسطينية بات هو المخرج الوحيد لفك العزلة السياسية عن الحركة، و»لإثبات» قدرة هذا المحور على «تحجيم» الدور المصري و»تحكّمه» بمعادلة المصالحة. لهذا بالذات، رأينا أن وفد حركة فتح زار القاهرة قبل الذهاب إلى الدوحة، وزار القاهرة قبل العودة إلى فلسطين وبعد «التصور» العملي الذي خرج به اجتماع الدوحة.
إذن هو اتفاق يعطي لفتح شيئاً «ما» ويعطي لحماس مكاسب «ما» ويعطي للمحور التركي دوراً «ما» ويبقي لمصر دوراً «ما» ويوحي للشعب الفلسطيني بأن أمراً «ما» تحرك باتجاه إنهاء الانقسام ويقطع على إسرائيل إلى حدٍ «ما» الطريق بالاستثمار الكامل في حالة الانقسام.
حالة تعليق الانقسام إذن هي حالة «ما» من حالات الوحدة وحالة «ما» من بقاء الانقسام قائماً بحدود المصالح الخاصة بحركة حماس وجناحها العسكري تحديداً مع اختفاء المظاهر الفاقعة لهذا الانقسام، وتراجعها نحو خط الدفاع الثاني أحياناً والثالث ربما، أيضاً.
إذا كان الأمر كذلك «ولا نرجو أبداً أن يكون فعلاً كذلك» فإن الوضع ليس على حاله تماماً ولكنه لم يتغير بصورة جادة على الاطلاق. إذن لسنا أمام حال توافق حقيقي على مجابهة المشروع الإسرائيلي بصورة فاعلة وموحدة، ولسنا أمام ميثاق شرف للشراكة الوطنية، ولسنا أمام عملية وطنية لترسيخ قواعد وأسس دستورية ثابتة للعلاقات الوطنية، ولسنا أمام توافق وطني راسخ على المعركة السياسية التي يخوضها الشعب الفلسطيني على المستوى القانوني والسياسي والدبلوماسي ولا على أساليب الكفاح الوطنية المناسبة في هذه المرحلة التاريخية الخاصة من النضال الوطني، كما أننا لسنا أمام حركة وطنية تجدد نفسها وتتجاوز سلبياتها وتشق طريقاً جديداً وجاداً لمواجهة أكبر تهديد تواجهه الحقوق الوطنية الفلسطينية منذ النكبة وحتى يومنا هذا.
وحتى أننا لسنا أمام خطط وطنية متفق عليها لمعالجة حالة الفقر التي وصل إليها القطاع، ولسنا أمام تردي مستوى معيشة المواطن الفلسطيني باستمرار وبتسارع وبوتائر غير معهودة في أحلك الظروف التي مرت على الشعب الفلسطيني في العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة.
وقبل كل ذلك وربما بعد كل ذلك، أيضاً، فإننا لسنا أمام إدراكٍ واعٍ للأخطار التي تهدد وجودنا وهُويّتنا ومستقبلنا وذلك بالنظر إلى حالة الإقليم العربي، وحالة الدمار الذي تشهده المنطقة، وحالة التدمير الذي تتعرض له المجتمعات العربية وهندسة إعادة بناء هذه المجتمعات، وفق منظورات ما فوق الوطنية والقومية وحصر وحشر آفاق التطور الاجتماعي فيها عبر دهاليز الأقلمة والطائفية والعرقية والمذهبية.
لسنا أمام صحوة فلسطينية، ولسنا أمام التبشير بمرحلة مراجعة واستخلاص الدروس ورسم آفاق جديدة للنضال الوطني. لسنا أمام ذلك كله وربما ليس من المنطق ولا من العقل أن نكون أمام كل ذلك.
أما لا نكون أمام أي شيء من كل هذا فهذا هو المحزن حقاً.
مرة أخرى نحن أمام مصالحة «ما» وتوافقات «ما» ولكننا على ما يبدو ما زلنا أبعد ما يكون عن المصالحة التي نحتاجها.
إذن هي مصالحة أخرى ولكنها الأخيرة على كل حال.