لا نستطيع إغماض أعيننا عمّا يحدث في النظام الإسرائيلي، الذي لا يمس حاضرنا ومستقبلنا وحسب، بل ولأننا نحن في صميم كل ما يحدث، أيضاً. هذا مفهوم ومعلوم. وثمة ما لا يحصى من التحليلات من جانب الفلسطينيين، وفي العالم العربي (والعالم) وبين الإسرائيليين أنفسهم.
لذا، ما أود الكلام عنه في هذه المعالجة لا يشكو ندرة المادة الإخبارية والتحليلية، بل حقيقة أن وجودها، بهذا القدر من الكثافة، قد خلق فوضى عارمة في المفاهيم والمقاربات، التي لا تشكو، كما أصحابها، ندرة الشواهد والبراهين. وما يستدعي التذكير، هنا، أن في فوضى المفاهيم والمقاربات كلما وُجدت، وأينما، وكيفما وجدت، ما يدل على وجود صراع بين روايات تسعى لاحتلال المتن، وتحقيق الهيمنة. وبهذا المعنى يجب التعامل معها، وتأويلها.
إذاً، ومع هذا في الذهن، نسعى إلى تحليل وتأويل ظاهرة الاحتجاجات والتظاهرات، التي صارت سمة سائدة للمشهد السياسي الإسرائيلي، ودون توقف منذ مطلع العام الحالي، مع استدراك مفاده أن هذا المسعى لا يشمل الكلام عن قضايا المتظاهرين، وماذا يريد هذا أو ذاك من الفاعلين في الحقل السياسي، ولماذا وقع هذا التحوّل أو ذاك. الاستثناء لا يعني التقليل من مداخل أساسية كهذه، بل التذكير بحقيقة أن الخلط بين مكوّنات مختلفة غالباً ما يُسهم في توليد إيحاءات ودلالات مُضللة.
لذا، نطرح السؤال الوحيد التالي: ما معنى ما نرى؟
وبما أننا لا نخترع البارود، ينبغي القول: إن هذا السؤال يكاد يطرح يومياً في صيغ مختلفة، وإن ثمة إجابات كثيرة تصدر عن الاعتراف بوجود أزمة تعصف بالنظام الإسرائيلي، وتتفرع في اتجاهات مختلفة لتأويل معنى ودلالة الأزمة، ما فيها من عواقب، وما يُحرّض على حلول.
واللافت، في هذا الشأن، أن نسبة يصعب تجاهلها من الإجابات لا تنجو من شبهة التفكير الرغبي Wishful Thinking، فالبعض يرى في الأزمة دليل تآكل وتفكك النظام نفسه، وأحياناً قرب انهياره. هذا شائع في أوساط الفلسطينيين، وفي العالم العربي، ولا يندر أن نجد بين الإسرائيليين أنفسهم مرافعات من هذا العيار. غالباً ما تتم إعادة تدويرها في مرافعات شائعة بمنطق "وشهد شاهد من أهلها".
والواقع أن مرافعتي الأساسية هي القول: إن في الأزمة ما يدل على متانة وقوّة النظام الإسرائيلي لا على تفككه، أو قرب انهياره. ودليلي أن أهم أدوات القياس في الحكم على متانة النظم السياسية يتجلى في ثقة الغالبية العظمى من المواطنين (بصرف النظر عن أحزابهم، وتحيّزاتهم) بها. نتكلّم، هنا، عن ثقة طوعية لا تنجم عن معادلة الطمع في الثواب والخوف من العقاب، بل عن قناعة بوجود مؤسسات تمثلهم، وقوانين تحميهم، وقضاء ينصفهم.
لذا، لا يرفع الناس شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" إلا إذا فقدوا ثقتهم بالنظام، وصاروا مستعدين للتضحية بأرواحهم كوسيلة للتخلّص منه. أما منْ يريد إسقاط حكومة، أو تعديل قانون، سواء بالتظاهر، أو عن طريق حملات إعلامية وسياسية في وضح النهار وعلى الملأ، فيدرك مسبقاً أنه يمارس حقاً مكفولاً، ويتمتع بضمانات، وأن القانون فوق الحاكم. وفي كل هذه الحالات ما يدل التمييز بين النظام والحكومة، وبين الدولة والنظام.
لا ضرورة للاستطراد في هذا الجانب (في الذهن كارثة اسمها العالم العربي). كل ما في الأمر أن أزمة النظام السياسي الإسرائيلي (من المفروغ منه أنه نظام الديمقراطية الإثنية) مستمرة منذ خمس سنوات تخللتها سلسلة من حكومات تصريف الأعمال، والانتخابات المبكرة، وحكومات ائتلافية هشة وقصيرة العمر، آخرها حكومة نتنياهو في أواخر العام الماضي، والتي رافقتها مظاهر احتجاج تضم مئات الألوف من المواطنين، منذ مطلع العام الحالي وحتى يوم الناس هذا.
وكل ما في الأمر، أيضاً، أن في صمود النظام السياسي خلال هذه السنوات، في ظل هذا القدر الكبير من التشظي، والصراع بين سياسات وأيديولوجيات صار من الصعب على معتنقيها التعايش مع خصومهم، ما يدل على قوته. والمقصود بالصمود، هنا، أن أحداً في طرفَي (أو أطراف) الصراع السياسي والأيديولوجي لم يكفر بقوانين ومؤسسات إدارة اللعبة السياسية بعد، ولم يعلن يأسه من الاحتكام إليها، والرهان عليها. هذا لا يعني أن الثقة بالنظام قد تستمر إلى ما لا نهاية، بل يعني أن هذا هو واقع الحال الآن.
لخلاصة كهذه أهمية خاصة، ويمكن تأويلها بطريقة مختلفة. فعدم اللجوء إلى العنف في قمع الاحتجاجات، أو الصدام العنيف في الشارع بين قوى على طرفَي نقيض، قد لا يدل بالضرورة على موهبة إسرائيلية استثنائية في إدارة الصراع السياسي الداخلي، بل على حقيقة أن الاحتلال والاستيطان هما مصدر تنفيس للاحتقان، وتفريغ للعنف في المجتمع الإسرائيلي نفسه.
وبهذا المعنى، ثمة ما يبرر البحث عمّا يعتمل في الداخل الإسرائيلي من عنف لا في أروقة المؤسسات الموكلة بإدارة اللعبة السياسية، ومفردات ما ينظمها ويشرعنها من قوانين وحسب (وهذه وتلك تزخر به)، بل وعلى الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة، أيضاً، بوصف الاحتلال مكوّناً عضوياً في النظام، وشاهداً على طريقته في تفريغ ما يحتقن فيه من عنف و"طاقة سلبية".
وفي السياق نفسه، قد نشخّص تشققات وشروخ النظام برصد وتيرة وتجليات العنف في الضفة الغربية وقطاع غزة، قبل "الداخل" الإسرائيلي نفسه. أرجّح أن تكون هذه سمة دائمة لتوليد وتفريغ العنف في الحالة الإسرائيلية منذ قيام الدولة. خلاصات كهذه تستحق التفكير والتدبّر في سياق الكلام عما يمكن وصفه "بالمسألة الإسرائيلية". فاصل ونواصل.