بعد ثلاثين عاماً على أوسلو ... إلى أين (1-2)

ugr5e.jpg
حجم الخط

بقلم هاني المصري

 

في هذه الأيام من شهر أيلول 1993، تم التوقيع على اتفاق أوسلو، والأسئلة التي طرحت من ذلك الوقت لا تزال مطروحة، وتتم الإجابة عنها إجابات مختلفة.

فهناك من يرى أن أوسلو كان كارثة بدليل كل ما تعيشه القضية الفلسطينية الآن، وهناك من عدّه ممرًا إجباريًا، بحكم الظروف والعوامل العربية والدولية التي كانت قائمة حينذاك، ولا مفر من استمرار التمسك به إلى أن يتوفر بديل منه أفضل أو أقل سوءًا. وعند أصحاب هذا الرأي، لو لم توافق القيادة الفلسطينية على الانحناء، ريثما تمر العاصفة من خلال القبول بالمرّ لتجنب الأمر منه، لشطبت القضية الفلسطينية وأداة تجسيدها منظمة التحرير من الخريطة التي رسمت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والتضامن العربي، خصوصًا بعد احتلال العراق للكويت. وهذه الآراء مردود عليها ببساطة، فما الذي يمكن أن تكسبه إذا خسرت نفسك وما تكونه من دون مقابل من نفس الوزن والأهمية؟

لقد كانت الانتفاضة الأولى رافعة للنهوض الوطني، ولو لم يتم الإسراع باستثمارها لدرجة الاعتقاد أن الدولة على مرمى حجر، مثل الاعتقاد الآن لدى البعض بأن زوال إسرائيل لن يتجاوز سنوات قليلة، ولو لم يتم عدم الاهتمام الكلي باستثمارها لأن عدم الاستثمار لا يقل ضررًا عن الاستثمار المتسرع، وتم البناء عليها وتجديدها واستمرارها؛ لكانت أحوال الفلسطينيين جيدة، أو على الأقل ليست سيئة بقدر ما هي عليه الآن.

أنا وياسر عرفات وأوسلو

يوم 25 كانون الأول 1994؛ أي يوم عيد الميلاد، وبعد يوم واحد فقط من عودتي إلى أرض الوطن، سافرت أنا وأخي المرحوم سامر بسيارته الخاصة من نابلس إلى غزة للقاء الرئيس ياسر عرفات، وعندما وصلنا إلى مقره على شاطئ غزة، الذي يسمى "المنتدى"، سألني الحراس عن سبب طلب اللقاء، وتساءل أحدهم أَمِنْ أجل التقاط صورة معه؟ فقلت له: لا، وإنما من أجل الحوار معه حول أوسلو، فبعد أن سألوا المسؤولين عن مواعيد الرئيس قالوا: ستنتظران بعض الوقت. وبالفعل، بعد مرور نحو ساعتين أدخلوننا إلى غرفة صغيرة، وذهبوا، وكان فيها أبو عمار يصلي، وأخذ ينظر إلينا بعيون شاخصة متوجسًا منا إلى أن أنهى صلاته، وتساءلت وأخي كيف يسمحون بدخول اثنين، على الأقل واحد منهما، وهو أخي سامر، غير معروف سابقًا، أما أنا فسبق أن التقيت "الختيار" مرات عدة قبل هذا اللقاء، أما بعده فالتقيته مرات كثيرة.

التقيت أبو عمار في السابق مرات عدة، مرة في اجتماع للمجلس المركزي الذي عقد عشية اندلاع الانتفاضة المجيدة الأولى، ومرة ثانية أثناء اجتياح بيروت في العام 1982، عندما زارنا في الموقع العسكري تحت جسر الكولا، قائلًا: من الحمار الذي وضعكم في هذا المكان الميت الذي يتعرض للقذائف والصواريخ من دون القدرة على الرد أو فعل شيء؟ ومرة ثالثة وهو لم ينسني من بعدها أبدًا، وكان يقول عندما يذكر اسمي بعده وحتى رحيله بأن هاني هواه فلسطيني؛ أي ينطق ويكتب بما يراه وليس لحساب شخص أو حزب أو دولة أو عائلة أو جهاز أمني أو مكان جهوي، وكانت المقابلة أثناء قدومي مع زميلي وصديقي عريب الرنتاوي وسائق ومصور ضمن وفد من مجلة الهدف لإجراء مقابلة معه أثناء معركة طرابلس، التي اندلعت بعد عودته إلى لبنان؛ حيث جئنا من مقر الهدف في دمشق التي كانت تحتضن من يحاربه، وسرنا للقائه من تحت الصواريخ وعدنا إلى دمشق مع احتمال التعرض للاعتقال، وأجرينا مقابلة معه كانت مميزة ومثيرة سببت جدلًا كبيرًا في قيادة الجبهة الشعبية، بين من اعترض على المقابلة ورفض نشرها، وبين من دافع عنها بشدة؛ ما أدى إلى التوصل إلى حل وسط بين الفريقين يقضي بألا تنشر المقابلة كاملة، وإنما جزء منها، ولا تكون على كامل غلاف العدد، وإنما يُشار إليها ببنط على زاوية الصفحة الأولى فقط، مع أن المقابلة كانت مهمة وصريحة وناقدة لمواقف وسياسات الرئيس، ولكن على قاعدة نختلف معه ولا نختلف عليه.

بعدما أنهى الرئيس صلاته في المنتدى، وسلّم علينا، بادر إلى السؤال: أين المذكرة؟ معتقدًا أن سبب اللقاء طلب وظيفة حين كانت الوظائف تعين بالجملة وفي كتاب واحد، فقلت له: لا توجد مذكرة ولا طلبات شخصية، ولكن لدي رغبة شديدة في مناقشة اتفاق أوسلو، وكيف وصلنا إليه، مع ما تضمنه من تنازلات كبيرة، أخطرها الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود والعيش بأمن وسلام على 78% من أرض فلسطين، من دون أن تعترف إسرائيل بأي حق من الحقوق الفلسطينية. كانت المفاجأة أن أبو عمار لم يعترض على معارضتي لاتفاق أوسلو، ولكنه قال إنه ممر إجباري، وعلى الرغم من كل عيوبه، فإنه يضع أرجلنا على أرض الوطن، ومن هناك يمكن أن نكسر القيود الغليظة التي كبلنا بها.

وعلى الرغم من عدم موافقتي على رأيه النابع من تقديري أن بالإمكان أبدع مما كان، وأن لا شيء يبرر تقديم كل هذه التنازلات بلا مقابل يوازيها، مع معرفتي أن وضعنا صعب، ولا مفر من تقديم تنازلات، ولكن لا تمس الحقوق الأساسية والرواية التاريخية، مقابل مجرد حكم ذاتي، وسلطة تجسد نوعًا من الهوية الوطنية ولكنها مقيدة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، ولا تملك الفكاك من قيودها، ولا تفتح أي أفق حقيقي لتحقيق أمنيات الشعب الفلسطيني وطموحاته، حتى في إقامة دولة على حدود 67، وعودة قيادة وكوادر ومقاتلي المنظمة إلى أرض الوطن، على أهمية ذلك، ولكن الثمن باهظ جدًا.

لقد تنازل أوسلو عن المقاومة من دون أن تحقق أهدافها، وفصل القضية عن الشعب والأرض، وقسّم كل واحدة منها إلى أجزاء، وجزّأ التفاوض على مرحلتين انتقالية ونهائية، متضمنًا فصل القدس عن بقية الأرض المحتلة، وجعلها تحت رحمة الاحتلال، من خلال تأجيل التفاوض عليها إلى المرحلة الأخيرة من التفاوض، إلى جانب قضايا الحدود والأمن والاستيطان واللاجئين، وذلك من دون مرجعية واضحة وملزمة ولا آلية تطبيق، إضافة إلى ان الاتفاق لا يتضمن وقفًا للاستيطان، كما كان يطالب حيدر عبد الشافي والوفد المفاوض معه، ولا إطلاق سراح الأسرى الذين لا يزال بعضهم وراء القضبان حتى الآن بعد ثلاثين عامًا على الاتفاق المشؤوم.

لقد كان هاجس عرفات الأكبر أن يرحل من دون أن يحقق شيئًا مثل سلفه الحاج أمين الحسيني، لذا ذهب بعيدًا في أوسلو آملًا أن يكون هناك ضوء في آخر النفق، وخاب أمله ووجد نفسه محاصرًا ومطالبًا بالاستسلام أو بالاستشهاد، فآثر الشهادة.

حاول أبو عمار مبكرًا التفلت من التزامات أوسلو

بالفعل، حاول ياسر عرفات تجاوز الاتفاق مبكرًا جدًا، من خلال إحضار أربعة من القيادات الفلسطينية معه في طائرته من دون الحصول على الموافقة الإسرائيلية، فما كان من إسحاق رابين الذي وصف بـ "بطل السلام" أن هدد بإيقاف كل شيء إذا لم يعد الأربعة من حيث أتوا، وعادوا ليدخلوا لاحقًا بعد الموافقة الإسرائيلية، وحاول أبو عمار أن يتصدى لمحاولة الحكومة الإسرائيلية التفلت من الالتزامات الإسرائيلية مجددًا على تطبيق الالتزامات بشكل متبادل ومتوازن، وتصدى من أجل ذلك للمشروع الاستيطاني في جبل أبو غنيم، وخاض معركة حامية ارتقى فيها عدد من الشهداء، معظمهم من أفراد الأجهزة الأمنية، وحاول أن يربط تطبيق الالتزامات الفلسطينية بتطبيق الالتزامات الإسرائيلية التي رد عليها رابين بأن "لا مواعيد مقدسة".

لقد ارتكبت القيادة الفلسطينية كل أنواع الأخطاء منذ توقيع أوسلو، الذي ما كان يجب أن يكون، وكان ولا يزال ولا بد من الخروج منه بسرعة بعد أن ظهرت نتائجه على الأرض التي كانت باستمرار أسوأ وأسوأ، ومن الأخطاء عدم الإشارة في الاتفاق إلى أن الأرض محتلة، وأن هدف التفاوض إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، بل كانت المفاوضات سيدة نفسها، وهدفها التوصل إلى اتفاق نهائي من دون مرجعية تحكم، ولا الاتفاق على مضمونه، وما حصل منذ ذلك الوقت وحتى الآن، وما أكده محضر اجتماع الحكومة الإسرائيلية الذي أقر اتفاق أوسلو الذي رفعت عنه السرية بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على توقيع الاتفاق، أن لا إسحاق رابين ولا شمعون بيرس ولا الحكومة الإسرائيلية كانوا بوارد الموافقة على إقامة دولة فلسطينية، بل هذا كان مجرد أضغاث أحلام من القيادة الفلسطينية التي تصورت أنها ستحصل على دولة فلسطينية مقابل التنازلات الكبيرة التي قدمتها (الاعتراف بإسرائيل والتنازل عن تمثيل شعبنا في 48 والتعاون الأمني)، وأبدت استعدادًا لتقديمها لاحقًا، مثل "حق العودة للاجئين"، تحت تأثير وجهة نظر خاطئة ترى أن مكانة إسرائيل تراجعت، ومرشحة للتراجع أكثر في الإستراتيجية الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة، وبدء السيطرة الأميركية الأحادية على العالم، وحاجة المصالح الأميركية إلى استخدام حل القضية الفلسطينية بوصفه جسرًا للتطبيع مع العالم العربي، والاستفادة من ثرواته وأسواقه الكبيرة.

الرئيس محمود عباس: أوسلو أُفشِل ولم يفشَل

شاءت الصدف أنني تناولت موضوع أوسلو في أكثر من اجتماع مع الرئيس محمود عباس، وذلك بعد اغتيال ياسر عرفات؛ لأرى الفرق بينه وبين عرفات، وأجابني عن سؤال لماذا فشل أوسلو، بأنه لم يفشل، وإنما أفشِل، وهناك فرق كبير بين الفشل والإفشال، فالإفشال قابل ليتحول إلى نجاح إذا توفرت الظروف المناسبة، وغمز من قناة أطراف فلسطينية وإسرائيلية متطرفة حاربت ضد الاتفاق منذ البداية، كما حمل سلفه قسطًا مهمًا؛ لأنه لم يف بالالتزامات الفلسطينية، ولم يساعد على تقديم أداء فلسطيني يوصل الفلسطينيين إلى الدولة وليس إلى الكارثة.

كان الخلف يتصور أنه قادر باعتداله وتنفيذ الالتزامات، ولو من جانب واحد، على إنجاز ما عجز سلفه عن تحقيقه، وهو الحلم الفلسطيني بإقامة دولة ولو على حدود 67، وها هو في الحكم منذ 17 عامًا ولم تتحقق الدولة، على الرغم من اعتداله المفرط، لدرجة أصبح سقف طموحه الحالي إعادة أوسلو والمحافظة على بقاء السلطة ليس أكثر. وهذا يفسر السياسة الرسمية الحالية واستمرار العمل لإعادة إنتاج أوسلو باعتباره أقصى ما يمكن تحقيقه.

جذر الخلل توهم إمكانية التوصل إلى تسوية من دون تغيير موازين القوى

يكمن جذر الخلل في عدم إدراك أن المشروع الصهيوني وأداة تجسيده إسرائيل، بسبب جذريته وخصائصه وطبيعته العدوانية الاستعمارية العنصرية الاحتلالية الإحلالية لا يقبل التسوية والحلول الوسط، لذا لا مكان فيه، كما يظهر في ممارساته وفي الحلول والمشاريع التي يطرحها أو يوافق عليها، للحقوق الفلسطينية حتى في حدها الأدنى. وهذا هو الذي أفشل أساسًا كل المبادرات والمشاريع التي سعت للتوصل إلى تسوية، وهذا لا يتجاهل الأخطاء والخطايا التي ارتكبها الفلسطينيون والأداء السيئ، ولكن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق عدم إدراك حقيقة الحركة الصهيونية التي كان ولا يزال مشروعها مفتوحًا ولم يغلق، وهي لن تتخلى عنه ما دام رابحًا وما دامت متفوقة عسكريًا ومدعومة من الولايات المتحدة، أقوى دولة في العالم، ومن الغرب الاستعماري برمته، فلا يمكن قبولها بأي تسوية حتى لو كانت الأم تريزا تتحكم في قيادة وقرار الفلسطينيين.

إن إدراك هذه الحقيقة يجبر صاحبه أنه من دون تغيير الحقائق على الأرض وميزان القوى ليصبح المشروع الاستعماري الاستيطاني بمختلف أدواته (الاحتلال، والفصل العنصري، العدوان العسكري، والتوسع الاستيطاني ... إلخ) يخسر أكثر مما يربح ومكلف لإسرائيل ومن يدعمها، لا يمكن تغيير المسار الذي تسير فيه القضية الفلسطينية من السيئ إلى الأسوأ؛ إذ بات شائعًا أنه ليس للحضيض حضيض.

يبقى أن نتوقف أمام هل القيادة الفلسطينية تتحمل وحدها ما حصل أم أن المعارضة، وخصوصًا حركة حماس تتحمل هي الأخرى قسطها من المسؤولية؟ هذا ما سنتناوله في المقال القادم.