مصطلح جديد من إنتاج خطاب الانقسام، هو كلما خرجت به اللقاءات بين حركتي فتح وحماس التي جرت يومي الأحد والاثنين المنصرمين في العاصمة القطرية ـ الاتفاق على «تصور عملي»، اشتقاق لحالة فشل لا يحتاج إلى نقاش لتفسير أبعاده، ذلك أن المهتمين وهم قلة قليلة، لن يختلفوا على اختلاف مشاربهم، على التوصل السريع لنتائج ما أفضت إليه اللقاءات وعنوانها الفشل، فالتفاصيل التي توضح هذا المصطلح، أكثر من واضحة.
بحسب ما أوردته وسائل الإعلام فإن الطرفين يختلفان حول المعابر والسيطرة الأمنية، والمدنية، ورواتب موظفي حكومة حماس السابقة، وآليات دمجهم بالإضافة إلى ملف منظمة التحرير الفلسطينية. لا داعي للخوض في تفاصيل مواقف كل طرف من هذه القضايا ولكن كل هذه القضايا موضع خلاف، لا نعتقد أن إحالتها للبحث في الأطر القيادية للحركتين ستقدم جديداً يغير واقع الحال.
الوضع عموماً مثل حال الراصدين الجويين، منذ أن بدأ فصل الشتاء، فلقد تغلبت التقلبات الجوية على كل تكنولوجيات الرصد وقدرات الراصد. بعد هذه الجولة التي استضافتها قطر وأرادتها ودعمتها تركيا، سينقطع مرة أخرى حبل الحوار واللقاءات إلى حين وإلى ذلك الحين ظل المناخ السياسي الفلسطيني محكوما لواقع وخطاب الانقسام. الذين التقوا في قطر كانوا على الأرجح يعرفون مسبقاً، النتائج التي يمكن أن تتمخض عنها هذه الجولة من اللقاءات، فكل منهما يعرف بالضبط ما يستطيع أن يقدمه للآخر، ويعرف بالضبط ما الذي يستطيع الآخر أن يقدمه، وحاصل الجمع سيعطي صفراً.
لذلك ربما تكتمت الوفود، واقتصدت كثيراً عن الادلاء بتصريحات سلبية أو إيجابية، وكذلك كان حال وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الطرفان، والناطقة باسم كل منهما.
ليس هذا فقط، بل ان المواقع الإخبارية الأخرى، ووسائل الإعلام العربية القوية والضعيفة تجاهلت ما وقع في الدوحة، أو اقتصدت كثيراً في التغطية إلى حد غياب الفائدة بحدها الأدنى.
الطرفان ذهبا إلى قطر من باب مجاملة الأطراف التي تبنت ورعت اللقاء، وسعت لتحقيق نجاح، ولكن ذلك، أيضاً، ينطوي على سلوك سياسي معروف، وهو نزع الذرائع، والعودة لأسلوب تقاذف الكرة الملتهبة، وتحميل الآخر المسؤولية.
ما ورد من تفاصيل قيل إنها ستعرض على قيادات الحركتين وحجم الخلاف حولها يشير إلى أن كل طرف متمسك برؤيته، غير مستعد لتقديم تنازلات ذات قيمة، وينتظر من الطرف الآخر أن ينتقل إلى مربعه ويساير رؤيته. في الواقع المسألة تتعلق بالقدرة فضلاً عن القناعة المؤسسة على عدم الثقة والخوف من الآخر، ذلك أن المستوى السياسي في حماس لا يستطيع تقديم ما تطلبه فتح من «تنازلات»، ذلك أن المقاومة تملك ثقلاً حاسماً في التأثير على الحسابات السياسية.
المقاومة بمسمياتها المختلفة، وأهمها وفي مقدمتها كتائب القسام معبّأة تعبئة عميقة وصادقة بفكرة العمل المسلح كأسلوب وحيد لتحرير فلسطين، وأفرادها وقياداتها لا تحسب حساباً للتضحيات التي يمكن أن يقدموها وهم يحفرون بأظافرهم الأرض، تحضيراً لمعارك التحرير.
وبغض النظر عن اختلاف الآراء، والتقييمات بشأن ماهية المقاومة وقدراتها، وبرنامجها وأهدافها، لكنها تمثل واقعاً صلباً، صعباً وقادراً على التأثير في الحياة السياسية العامة وفي حسابات وقرارات القيادة السياسية.
فتح هي الأخرى، تتمسك بتجربتها وخطابها ورؤيتها للتحرر الوطني وهي قد راجعت المرحلة الماضية منذ انطلاقة الثورة المعاصرة، وخرجت باستنتاجات مهمة بشأن أشكال خوض الصراع وأولوياته، وهي المسؤولة عن خيار السلطة، المحكومة حتى الآن باتفاقيات اوسلو واشتراطاتها، وتدرك أنها لا تستطيع حمل أعباء المقاومة في حال تم التوافق على صيغ وأطر توحيدية.
إذاً الهروب نحو تفاصيل ما ورد في لقاءات الدوحة، هو هروب من الاستحقاقات الكبيرة والأساسية، وهروب من جوهر القضايا والاستعصاءات التي حالت وتحول دون تحقيق تحوّل جذري في مسيرة وسيرورة الانقسام.
تصبح اللقاءات التي جرت وأية لقاءات جديدة مجرد ذر للرماد في العيون التي أمرضها وأعياها الانقسام، فيما الحقيقة هي أن كل طرف يراهن على تغير الظروف والعوامل المحيطة التي يمكن أن تؤدي إلى إخضاع هذا الطرف لرؤية الطرف الآخر.
شكراً للطرفين اللذين أبديا حرصاً خلال اللقاءات على أن لا يقع المواطن الفلسطيني في خيبة أمل أخرى، لم تكن لتضيف إلاّ تعميقاً لمشاعر الاحباط واليأس.
في مواجهة هذا الفشل، نأمل كحد أدنى، أن لا تثور في وجوه الناس موجة جديدة من التصريحات النارية، والاتهامات المتبادلة أو التصرفات الانتقامية من الطرفين ضد بعضهما البعض.
والحال أنه لا يمكن انتظار تحرك قطار المصالحة إلاّ على أرضية تحولات سياسية مهمة فيما يتعلق بالعلاقة والصراع مع الاحتلال، فلقد أثبتت التجارب السابقة كلها أن الصراع مع الاحتلال يشكل أساساً متيناً لتحقيق الحدّ الأدنى من الوحدة الوطنية.
هذا يعني أن جوهر الخلاف والاتفاق هو سياسي بامتياز وهو ما تجاهلته كل الحوارات التي وقعت منذ وقع الانقسام حتى الآن. المعانيات إذاً ستستمر على حالها، بل ان الأزمات التي يعاني منها المواطن مرشّحة لمزيد من التفاقم، فلا معبر رفح سيتغير حاله، ولا سيتغير حال أزمة الكهرباء، أو التشغيل أو الفقر، أو تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للناس عموماً في الضفة وغزة، على حدِّ سواء.