في فجوة تاريخية مرت على إسرائيل، توفرت لبنيامين نتنياهو فرص سهلة للوقوف على رأس إسرائيل أطول مدة، حتى من مدد تلك الأسماء الكبيرة، مثل بن غوريون المؤسس، ومناحيم بيغن، والجنرالين إسحق رابين وأريئيل شارون.
كان الرجل الأقوى في «الليكود»... والشريك الأقوى حين الاضطرار إلى تداول الرئاسة مع غيره، والرجل الذي أحرج سادة البيت الأبيض لفرط استخفافه بهم، ومن ينسى حين قفز إلى منصة الخطابة في الكونغرس من فوق رأس باراك أوباما، كذلك حين رجاه بيل كلينتون أن يفرج عن سجينين فلسطينيين مريضين بالسرطان، وذلك بطلب من ياسر عرفات في أثناء زيارته إلى غزة؟ لم يرفض بتهذيب، بل قال بتعالٍ: «إننا دولة قانون، ولا تحل الأمور عندنا هكذا».
كان نتنياهو في تلك الفجوة التاريخية التي اختفت فيها الأسماء الكبيرة، يسمى في إسرائيل الملك، وكانت الدولة القوية، أو المستقوية، بمؤسساتها وأحزابها وسلطاتها، طيعة في يده، يشكل سياساتها الداخلية والخارجية وفق تصاميمه، وبما يضمن بقاءه أطول مدة ممكنة على رأس حزبه وحلفائه، وعلى رأس الدولة.
كانت زياراته لأميركا حدثاً يتسابق كثيرون على الاحتفاء به، ولعله استحق الدخول إلى موسوعة «غينيس» بعدد المرات التي صُفق له فيها وقوفاً في الكونغرس.
الطبعة الأخيرة لنتنياهو بدأت حين فوجئ بفوز مريح في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، «وفي إسرائيل فإن فارق صوت أو صوتين يبدو مريحاً وحتى حاسماً».
نتنياهو القوي والذكي واللاعب بالبيضة والحجر كما يقال، خانه ذكاؤه هذه المرة... لم ينتبه بالقدر الكافي إلى أنه ألبس إكليل شوك طوق رأسه بأربعة نواب حملوه إلى رئاسة الحكومة كي لا يصعد إلى العرش الذي تعوّد عليه، بل إلى سجن تحول فيه من حاكم إلى محكوم، وكلما فكر بالتحرر ولو قليلاً وقف السجانون بن غفير وسموتريتش ومن معهما ملوحين بإسقاطه، والأمر لم يعد بحاجة لأكثر من غيابهما عن أي تصويت في الكنيست، ما يرسله إلى البيت، هذا إذا نجحت تسوية ما في إعفائه من الذهاب إلى السجن.
نتنياهو صار عبئاً على نفسه بعد تعود طويل الأمد على قيادة الخصوم قبل الموالين، وصار عبئاً على إسرائيل التي فقدت في الشهور الأولى من طبعته الأخيرة الكثير من مكامن قوتها وتفوقها، بدءاً بالجيش، مروراً بالاقتصاد، وليس انتهاءً بالشارع الذي لم يتوقف يوماً عن الاحتجاج على سوء سلوكه، ما اضطره يوماً إلى أن يقطع الكيلومترات القليلة التي تفصل بين بيته في القدس ومطار بن غوريون بمروحية عسكرية.
كان وضعه القوي والمتمكن في إسرائيل، يحجب الرؤيا عن أنه عبء على أميركا ذاتها، وعلى المنطقة، وعلى مبدأ السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.
كان يدخل البيت الأبيض دون استئذان، ويضع بصماته على السياسات الشرق أوسطية كما لو أنه واحد من أعمدة البيت.
أمّا الآن... وبعد مرور شهور طويلة وهو يطرق باب البيت الأبيض دون مجيب، يحظى بفرصة الدخول من باب خلفي لا مزايا له... باب الأمم المتحدة، الذي يدخله الجميع دون استئذان، وهناك لا تصفيق بل ربما مقاعد غير مكتظة، إن لم تكن خالية.
أقدّر... أن حالة نتنياهو في انحسار شديد، وأن حجم الخسائر الإسرائيلية الناجمة عن رئاسته فادحة على نحو غير مسبوق، وأن الرهان على ما يوصف بقدرته على ترويض المجانين، لم يعد في محله.
في إسرائيل حديث بصوت مرتفع عن بديله في «الليكود» وفي الحكومة. وهذا ما ينذر بالأفول.