عن دورة جديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

يشهد الثلث الأخير من شهر أيلول الجاري، كل عام، مناسبة أممية، هي اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، حيث عادة ما يتوافد رؤساء الكثير من الدول إلى مدينة نيويورك الأميركية، وذلك لإلقاء الخطب والكلمات، التي يعتبرها أصحابها على قدر من الأهمية، خاصة حين يتعلق الأمر برؤساء دول في حالة حرب أو صراع أو خلاف سياسي مع دولة أخرى، فاجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، يعتبر حدثا دوليا، يجري تداوله إعلاميا على طول وعرض الكرة الأرضية بأسرها، لذا فإن خطب أو كلمات رؤساء الوفود التي يشرحون فيها مواقفهم وسياساتهم، في الغالب تؤثر في طبيعة وجوهر ما يتخذ من قرارات في الجمعية العامة، التي تعتبر بمثابة برلمان النظام العالمي، أو ممثلة شعوب الكرة الأرضية، مقابل مجلس الأمن الذي تقتصر عضويته الدائمة على خمس دول فقط، إضافة إلى عشر دول يجري اختيارها بالتداول من بين دول العالم، والتي لا تتمتع كما هو حال الدول الخمس دائمة العضوية بحق النقض.

والحقيقة أن اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة الذي يجري منذ ثمانية عقود، بشكل دوري سنوي، شهد وإن كان ليس بشكل دوري دائم، وقائع دراماتيكية، وذلك خلال الحرب الباردة، ذلك أن إنشاء الأمم المتحدة، رغم أنه وقع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي في ظل نظام كانت تقوده الدول التي تحالفت ضد دول المحور، أي ألمانيا واليابان وإيطاليا، حيث كان يمكن أن تكون أكثر تجانسا مما ظهرت عليه، لكن الحرب الباردة، هي التي تسببت لها بكثير من الشلل، فإذا كانت الجمعية العمومية تتخذ قرارات غير ملزمة، فإن قرارات مجلس الأمن أكثر أهمية نظراً إلى أن بعضها يندرج تحت البند السابع، الذي يسمح باستخدام القوة الدولية لفرض قرارات المجلس، إلا أن انقسام الأعضاء الدائمين الخمس ما بين طرفي الحرب الباردة، وبسبب من حق النقض الذي تتمتع به تلك الدول، فإنه نادرا ما وجدت القرارات الدولية طريقها إلى التطبيق.
أما الاتفاقيات المهمة بصرف النظر عن طبيعتها، عسكرية، سياسية، اقتصادية، فقد كان يجري عقدها خارج إطار الأمم المتحدة، ما قلل من أهمية المنظمة الدولية، والتي جاءت كما سابقتها، عصبة الأمم، لتحول دون تجدد الحرب العالمية، وصحيح هنا أن حرباً عالمية ثالثة لم تندلع خلال وجود منظمة الأمم المتحدة، لكن الفضل في ذلك لا يعود إلى المنظمة، بل إلى وجود الرادع النووي، الذي امتلكته دول طرفي الحرب الباردة، إضافة لدول أخرى، هي إضافة للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، كل من الهند وباكستان، وكوريا الشمالية وإسرائيل.
ليس ذلك وحسب، بل إن الحرب الباردة، أو الحرب بالوكالة، رافقت الأمم المتحدة منذ نشأت وحتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، أي طول نحو خمسة عقود، حيث كان طرفا الحرب الباردة، وبالتحديد الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، يدعم أحدهما طرفا في أي حرب إقليمية أو حتى أي حرب بين دولتين أو طرفين، حتى إذا كان أحد طرفي الحرب واحداً من الدولتين الأعظم خلال الحرب الباردة، وكان الدعم السوفياتي والصيني لفيتنام الشمالية وهي تحارب ضد الانفصاليين ممثلين بنظام نغوين فان ثيو والوجود العسكري الأميركي، الذي كان وجوده يحول دون توحيد فيتنام، وليبقي على انقسامها بين شمال بعاصمته هانوي، وجنوب بعاصمته سايغون، تماما كما هو حال كوريا حاليا، فيما كان الدعم الأميركي لفصائل مقاومة الوجود العسكري السوفياتي في أفغانستان، الذي سعى إلى الحفاظ على النظام الشيوعي الذي لم يكن مقبولا محليا، وهكذا كان حال المواقف السياسية، في ظل الحرب الباردة مثل حال المواقف العسكرية، أي أن أحد طرفي الحرب الباردة كان دائما يدعم طرفا، مقابل أن أميركا تدعم وتؤيد الطرف الآخر، كما كان الحال إزاء القضية الفلسطينية، ففي حين أيدت ودعمت أميركا والغرب عموما إسرائيل حتى وهي تحتل أرض غيرها من الدول العربية، كان الطرف الآخر من الحرب الباردة مؤيدا دائما للحق الفلسطيني في الحرية والاستقلال.
حقيقة أخرى، كانت تقلل من أهمية المنظمة الدولية، وهي ظهور أنظمة إقليمية وتكتلات وتحالفات دولية عديدة، أهمها بالطبع تلك التي كانت ذات طابع عسكري، حيث كان كل من حلفي شمال الأطلسي (الناتو)، وحلف وارسو ممثلين لقطبي الحرب الباردة على الصعيد العسكري، كما ظهرت تكتلات عديدة، مثل دول عدم الانحياز، ومن ثم الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، ثم وبعد انتهاء الحرب الباردة، ظهرت تكتلات أخرى، أهمها كان الاتحاد الأوروبي، ودول «آسيان»، ثم المجموعات الاقتصادية، السبع الكبار، مجموعة العشرين، بريكس، هذا إضافة إلى التحالفات الكثيرة جداً الثنائية والثلاثية، وفي أكثر من مكان، كل ذلك يفرض مواقف مسبقة للدول الأعضاء في أي تكتل إقليمي، وهي في الأمم المتحدة، أي أن التناسق على أساس القانون الدولي، أو التوافق لم يكن قائما، وهكذا باتت المنظمة الدولية تعجز عن «توحيد العالم»، ولا حتى فيما يعتبر خطرا على البشرية بأسرها، مثل تغير المناخ، سباق التسلح، ومخاطر السباق النووي بالذات، وأبلغ دليل على فشل وعجز المنظمة الدولية عن توفير الحل لأي مشكلة تعرض عليها، هو الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، وللمفارقة فإن الأمم المتحدة ظهرت كمنظمة مع ظهور القضية الفلسطينية كمشكلة إقليمية ودولية.
ورغم كل ما اتخذته الأمم المتحدة من قرارات حتى تلك المجحفة، أي المنحازة لإسرائيل، منذ الإقرار الأممي الاعتراف بها كدولة وقبولها في عضويتها، حيث تبلغ قرارات الجمعية العامة المئات، وقرارات مجلس الأمن العشرات، إضافة إلى قرارات كثيرة جداً صدرت عن مؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة العديدة، فإن الأمم المتحدة ما زالت عاجزة عن فرض دولة فلسطين العضو المراقب فيها، على الأرض، وحتى اليوم ما زالت عاجزة عن فرض الانسحاب على إسرائيل من الأراضي التي احتلتها منذ 56 سنة، وهذا يعني أن احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين والجولان السوري والغجر اللبناني، لم يعد احتلالا مؤقتا، أي انه لا يجوز أن يبقى يوما واحدا، وكل هذا يقلل من أهمية المنظمة الدولية، ومن جدوى وجودها، الذي بات هذا العام بالذات أقل أهمية من مباراة كرة قدم بين دولتين، أو حتى بين ناديين مشهورين على نطاق عالمي!
لابد من ملاحظة بهذه المناسبة، أيضا سببا آخر يقلل من أهمية منظمة الأمم المتحدة، له علاقة بطبيعتها التي مضت عليها السنون، وهي بذات النظام والتشكيل، خاصة فيها يخص أهم مؤسساتها وهو مجلس الأمن المكون من 15 دولة، كما أسلفنا، تتمتع منها خمس بالعضوية الدائمة، أولا وبحق النقض ثانيا، هذا مع العلم بأن دولا أخرى صارت ليست اقل أهمية من أولئك الأعضاء، وإذا كانت اليوم أميركا والصين اقتصاديا وعسكريا اكبر دولتين في العالم فإن روسيا أيضا كقوة عسكرية أولا واقتصادية ثانيا، يمكن تفهم أن تبقى على تلك العضوية وذلك الحق، لكن بريطانيا وفرنسا، لم تعودا أهم من ألمانيا واليابان اقتصاديا، كذلك ظلت الولايات المتحدة الدولة الأكثر تأثيرا على المنظمة الدولية، وذلك بسبب كون المقر الرئيس للمنظمة الدولية في نيويورك على الأرض الأميرية، ولعل حادثة نقل اجتماع الجمعية العمومية من نيويورك على جنيف العام 1988، وذلك لأن أميركا امتنعت عن منح الزعيم الراحل ياسر عرفات سمة الدخول خير دليل على التأثير الجغرافي على السياسة، كذلك حقيقة أن الولايات المتحدة هي الدولة التي تدفع الحصة الأكبر من ميزانية المنظمة الدولية.
وعلى مدار السنوات الماضية، اعتاد الرئيس محمود عباس، الذهاب إلى نيويورك ومخاطبة الضمير العالمي، شاكيا واقع الحال في فلسطين، حيث يقابل بالتصفيق والتعاطف، وحتى بقرارات التأييد من الجمعية العامة، والتي تضاف إلى سابقاتها دون أن يحدث أي تغيير يبشر بقرب زوال الاحتلال عن أرض فلسطين، لكل هنا نتساءل عن جدوى الذهاب إلى نيويورك التي هي ليست واشنطن، وهذا ما يدركه بنيامين نتنياهو وجو بايدن، وإن كان ذلك الذهاب يستحق عناء السفر جواً لنحو اثنتي عشرة ساعة متواصلة ؟!.