الرواية الفلسطينية أكثر متانة من أن تهتز فالتاريخ لا يمكن تزييفه بسهولة.
قد يتعرض أحد قضاته للرشوة لكن حقائق الأشياء تبقى ثابتة ولا يمكن التلاعب بها.
ومن هنا لا يفهم الخوف الزائد حد الهوس على الرواية الفلسطينية إلا في سياقات تطلق العنان لتفسيرات أبعد كثيراً من الرواية نفسها، وهناك عشرات الشواهد في السنوات الأخيرة تضفي عليها مزيداً من المصداقية.
في بيان الأكاديميين والمثقفين وبعضهم أصدقاء ما يشي بأزمة أكبر من الجدل والاختلاف، لم أوقع على البيان فقط لأنني لم أصب بالذعر لحظة أن بدأت الحملة الإسرائيلية والدولية ضد خطاب الرئيس الفلسطيني الذي لم ينكر المحرقة أصلاً، بل جاء على بعض ما قاله كارل ماركس حول المسألة اليهودية وآرثر كويستلر حول دولة الخزر وكتاب إيلان هاليفي حول القبيلة وكلهم من اليهود فلا يمكن اتهامهم بمعاداة السامية ليقول البيان: «ندين بشكل لا لبس فيه التصريحات المستهجنة أخلاقياً وسياسياً التي أدلى بها رئيس السلطة حول المحرقة»، ويشير لمعاداة السامية رغم انتفائها تماماً في الخطاب فالمصادر التي اعتمد عليها نفسها لم تتهم باللاسامية.
يجب ألا يهتز الفلسطيني الذي ينبغي أن يقف على أرض صلبة فقد تعرض لما يكفي من الحملات، رغم الإدراك بأن موقعي البيان يعيشون في تماس يومي بعضهم في الجامعات الغربية ينافح الرواية الصهيونية ويتعرض للضغط في مكان عمله.
كان يبدو أن البيان أصابه الخوف لتتم صياغته بما أفقده توازنه متجاوزاً الخط الفاصل الذي كان يجب أن يقف عنده، هذا التوازن الدقيق الذي ينبغي أن يظل حاضراً في كل اللحظات كمعيار للأداء الوطني والذي أخرج البيان عن رصانته اللغوية وتوازنه الوطني رغم حرص الكثير ممن أعرفهم ممن وقعوا على البيان على مشروعهم الوطني بدرجة لا تقل عن أي فلسطيني.
وكانت ردود الفعل على البيان أكثر فقداناً للتوازن حيث انهارت اللغة حد التخوين، وهي التهمة التي يضعها كل فلسطيني في جيبه لتكون جاهزة ليشهرها أمام أي فلسطيني يختلف معه ولم تكن أقل ذعراً من لغة البيان نفسه، كانت لغة إعدام سياسي.
وفي هذا وذلك ما يعكس تكسر الجزئيات في الحالة الفلسطينية وانقطاع التواصل حد الاستعداء وهذا أكثر ما يخيف.
تواصلت مع الأصدقاء منهم من وقع على البيان مبدياً ملاحظاتي حول المسألة والضرورة وتشابك القضايا وتزامنه مع الحملة المنظمة والمعايير التي تحكم الجميع وقسوة اللغة وخروجها عن الرصانة، مع انتفاء مبرر معركة غير مفهومة وكذلك مع بعض من لم يوقعوا ومنهم الدكتور خالد الحروب الذي يحمل وجهة نظر متوازنة لمحاولة تدارك ما يمكن تداركه في معركة زائدة بين النظام السياسي حامل القضية والأكاديميين والمثقفين الذين كان يجب أن يكونوا حراس القضية في خط متواصل كما كان يفعل ياسر عرفات، لكن الحاصل أن هناك تباعداً يصل حد الندية والعداء، فاللغة تطايرت عنيفة في البيان والرد عليه يشي بذلك.
لا يمكن لأحد أن ينكر المحرقة التي قامت بها النازية ضد اليهود، ولا يمكن لأحد أن يتجاوزها كحدث تاريخي لكن تلك الكارثة الإنسانية قامت بها أوروبا وليس العرب، كما أن الفلسطيني لم يلوث تاريخه بها ليصاب بهذا الذعر كأنه متهم لحظة التطرق لها ليبدأ بالتنصل والاعتذار كأنه مسؤول عنها.
وعلى أوروبا أن تقدم اعتذاراً للإنسانية وليس فقط لليهود. وإن كان هذا من اختصاص المؤرخين والباحثين وليس اختصاص السياسيين التحدث بهذا الأمر كان يجب أن يترك الرئيس لهؤلاء الحديث عن مواضيع كهذه لأن الأمر يصيب بقدر من الحرج بعض النشطاء العاملين في الساحات الخارجية حتى ممن يرفضون التوقيع على ذلك البيان.
اللافت هنا في تلك المعركة الزائدة مسألتان، الأولى أن لا أحد من أكاديميي أو مثقفي قطاع غزة أو إلى حد كبير من الضفة الغربية وقع على البيان ما يشي بانفراط عقد تلك النخبة واختلال أولوياتهم، فلم يعد هناك جامع وإذا كان هناك ما يجمعهم تبرز مسألة التناقض الشديد حد التخوين على طبيعة الحوار بينهم والمسألة الثانية تماما تنطبق على العلاقة بين المثقفين والنظام السياسي من تباين حد الخصومة والعداء.
علينا الاعتراف أن زلزال الربيع العربي قد حرك المنطقة التي يقف عليها كثير من المثقفين الذين يقفون على أرض رخوة حين لاحت أموال النفط وهي تتحضر لمشروعها لتجعل من البعض جزءا من مشاريع تدافع وتهاجم ما أفقد الظاهرة مصداقيتها ومؤهلها ومعاييرها، ففقدت صوتها وصداه وزادت من أزمة الثقة والتشظي بين السياسي والمثقف وبين المثقف والقارئ.
وبالمقابل منذ سنوات تشهد الحالة السياسية قدراً من التصحر الثقافي والتباعد. فالسلطة قد قطعت خطوط اتصالها مع المثقفين والمفكرين في الداخل والخارج وانكفأت على ذاتها بمن يعوزهم احتراف الدفاع عن القضايا ومهاجمة الخصوم بلباقة.
كثير من النشطاء والأكاديميين المثقفين في الخارج مستاؤون من البيان، وسأضرب مثلاً باثنين اعتبرهما الأكثر دراية بالمجتمعات الغربية، الدكتور سنان شقديح والدكتور عفيف صافية. الأول يحرث الأرض ميدانياً في أكثر الساحات صعوبة في الولايات المتحدة الأميركية والثاني الشخصية الأبرز فلسطينياً على الصعيد الدبلوماسي وهما يعتبران مرجعية في مخاطبة العالم وفهم روحه أكثر من غيرهما، البيان ليس بتلك الأهمية لكن ما حدث كما قال أحد الأصدقاء أكد أننا لا نجيد الاتفاق ولا نجيد الاختلاف، الموقعون على البيان ذهبوا أبعد مما يجب ربما لتفتت الحالة وتباعد الجزئيات وتباعد الأولويات والأعتقادات والتقديرات كل ذلك صنع قدراً من العداء بين كل المكونات الفلسطينية.
الموقعون ومعظمهم لا يمكن اتهام أي منهم بالتواطؤ والتآمر وواجب النظام السياسي احتضانهم لا استعداؤهم وتلك مهمة منظمة التحرير هناك حاجة لحوار فلسطيني مع نخبته وأعيد نشر اقتراح الصديق سنان شقديح بأن تكلف المنظمة الدكتور عفيف صافية لمتابعة الحوار معهم حتى لا يتكرر الأمر أو محاولة لتجميع المرايا المكسرة.