هارتس : بعد 30 سنة.. شخصيات فلسطينية: علقنا في “أوسلو” وامتلأت الضفة بالمستوطنات

جاكي-خوري.jpeg
حجم الخط

بقلم  جاكي خوري

يرفرف في الميدان الرئيسي إعلان كبير الأمة مع شريكه في الاتفاق التاريخي. حوله هناك مسيرات واعتصامات تأييد، لافتات كتبت عليها كلمة سلام بالعربية والعبرية معلقة في كل مكان. غير بعيد من هناك، في متنزه بلاطة الذي كان ذات يوم مخيماً للاجئين، يفتتحون حديقة نباتات جديدة. وهنا محطة نابلس المركزية، التي انتهت الأعمال فيها والتي ستربط شمال الضفة والقدس بالقطار قريباً.

قبل ثلاثين سنة عندما مشى ياسر عرفات وإسحق رابين وبيل كلينتون على العشب الأخضر في البيت الأبيض، بدا ذلك مثل حلم ربما سيتحقق لاحقاً. الآن يبدو أنه حلم ليس أكثر من وهم تبدد.

13 أيلول 1993 كان يوماً لشكوك ممزوجة بالنشوة، أو العكس. اتفاقات أوسلو كانت خطوة أولية في الطريق لاتفاق شامل مع إسرائيل، بل خطوة كبيرة، على الأقل على الورق، لترسيخ الكيان الفلسطيني. للمرة الأولى منذ 1948 كان له أساس سياسي معترف به على أرض شرق الخط الأخضر. عرفات وكبار شخصيات م.ت.ف الذين اضطروا إلى الترحال بين الدول العربية، أصبح لهم الآن بيت رسمي، الذي اعترفت به إسرائيل والعالم. ولكن سؤالاً واحداً على الأقل يشكل لغزاً الآن: هل كانت الاتفاقات بذور الدولة الفلسطينية أم كانت وهماً؟ محاولة الإجابة على هذا السؤال في محادثات مع شخصيات رفيعة في السلطة، ووجهت بصعوبة معينة. هم على استعداد للتحدث، لكن بدون ذكر أسمائهم. “بعد 30 سنة، من الواضح أنه لا يمكن التحدث عن نجاحه”، قال أحدهم. “هذا اتفاق مؤقت لخمس سنوات، كان يمكن أن يرسخ اتفاقاً دائماً ويبدد الشكوك لدى الطرفين”. ولكن بعد خمس سنوات، أصبح واضحاً أن الأجندة الأصلية لن تخرج إلى حيز التنفيذ.

“اغتيال رابين، وبعد ذلك الانتخابات التي جلبت نتنياهو إلى سدة الحكم، كان المسمار الأول في نعش أوسلو”، قال حسن عصفور، الذي كان في التسعينيات أحد الأشخاص القريبين من عرفات، وكان على اطلاع بقضايا الاتصالات التي تحدث وراء الكواليس. “منذ ذلك الحين تلاشت كل أهمية أوسلو السياسية، بالأساس انسحاب إسرائيل الذي تم التخطيط له من مناطق “ب” و”ج”، والذي لم يحدث. في موازاة ذلك، حدثت عملية تعميق المستوطنات وإبعاد أي اتفاق سياسي مستقبلي”.

رغم قربه من رئيس السلطة الفلسطينية السابق، لم يكن عصفور من أبناء فتح. هذا القرب يبدو الآن بعيداً جداً، حيث إنه بات أحد أشد المنتقدين للسلطة، ولا يوفر انتقاده لحماس. عندما يحصي المحطات في طريق آلام اتفاق أوسلو، يعتقد بأن مؤتمر كامب ديفيد مع إيهود باراك في تموز 2000 (“باراك سعى لتهويد القدس، وعرفات رفض ذلك”) لم يكن نهاية الرحلة. حدث هذا بعد شهرين من ذلك عندما زار أريئيل شارون، الذي كان في حينه رئيس المعارضة، الحرم. لم تكن طريق للعودة من هناك. “بعد ذلك”، قال عصفور، “كل شيء تفجر”.

أقوال بروحية مشابهة قالها أيضاً مصدر فلسطيني رفيع، “كل شيء تشوش منذ ذلك الحين، تبنت إسرائيل نظرية “لا يوجد شريك”، واتهموا الفلسطينيين والعمليات”، وأضاف: “يكفي النظر إلى الخارطة كي نكتشف كيف سرعت إسرائيل البناء في المستوطنات وفصلت القدس عن الضفة الغربية، وهي تخطط لضم مناطق “ج” التي تشكل 60 في المئة من الضفة”. “هذا الأمر له تأثير بعيد المدى”، أكد هذا المصدر. “هذا ليس واقع جنوب لبنان مع قواعد عسكرية ومنشآت أمنية التي يمكن تفكيكها في أسبوع، بل ترسيخ حقائق على الأرض. بعد ثلاثين سنة، تقلصت المنطقة ومثلها تقلص فضاء عيش الفلسطينيين”.

       عمق الشرخ

بعد ثلاثين سنة، خارطة الضفة الغربية بدت كابوساً للفلسطينيين الذين عملوا في اتفاقات أوسلو. ولكن على الأقل رسمياً، لم يتم تخريب كل شيء. أوسلو، كما قال نبيل عمر في محادثة مع “هآرتس”، وهو المتحدث والمستشار السابق لياسر عرفات، منح الفلسطينيين قاعدة جغرافية في قطاع غزة والضفة الغربية، وأسس للمؤسسات الرسمية، بدءاً بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية ومروراً بتشكيل الحكومة وانتهاء بالحفاظ على السلطة الفلسطينية كجسم يعمل وله صلاحيات. “كون كل شيء متعثراً الآن، وجزء من المؤسسات لم يعمل، وأيضاً لم تكن انتخابات منذ 2006، كل ذلك لا يعني أن الأساس لم يكن صحيحاً”، قال.

نبيل عمر، الذي كان وزير الإعلام في الحكومة الأولى لمحمود عباس في 2003، لا يستخف بكل الموجود، لكن في ظل غياب أفق سياسي وغياب نية حقيقية من قبل إسرائيل بالتوصل إلى إنهاء النزاع، فهذا هو عزاء الفقراء في أفضل الحالات. “لا يمكن الحفاظ على الوضع القائم إلى الأبد”، وأضاف: “من الواضح أن ما تبقى من أوسلو هو فقط السيئ في أوسلو: سيطرة إسرائيل على حياة الفلسطينيين مع كل تبعات هذا الأمر. في نهاية المطاف، إسرائيل وبشكل كبير المجتمع الدولي والقيادة الفلسطينية أيضاً، أخذوا مزايا أوسلو وأبقوا الشعب الفلسطيني مع نواقصه. ما زال الاتفاق رسمياً ساري المفعول وينظم نشاطات السلطة من ناحية إدارية، وكذلك التنسيق والعلاقة بين الطرفين”. ولكن الحديث يدور -حسب قوله- عن أمور تقنية لا أفق لها. بالعكس، حقيقة أن هذا مستمر تثبت عمق الشرخ: الفلسطينيون عالقون في أزمة داخلية، في حين تدير إسرائيل الاحتلال وتعمقه على الأرض.

        

       ارتفاع عدد المستوطنين بمئات الآلاف

هذه الأزمة الداخلية غير المسبوقة بين الضفة وغزة وبين التنظيمات المختلفة فيما بينها، تشغل الآن الفلسطينيين على الأقل مثل اتفاق أوسلو وما تبقى منه. كثيرون يعتبرونها المفتاح للخروج من حالة الجمود، لكن المسؤولين عنها ليسوا أبناء فتح وحماس والجهاد الإسلامي والفصائل الأخرى فقط، بل هناك عدد غير قليل من الفلسطينيين الذين يوجهون سهام الانتقاد لواشنطن، وبدرجة أقل لعواصم أخرى في العالم. “لو أن المجتمع الدولي دعم واستخدم الضغط على الحكومة الإسرائيلية، لتغيرت الصورة”، قال عمر وعصفور. “حينها يمكن الخروج من الجمود الداخلي إلى عملية علاج الجراح والتجديد”.

“إذا وجدت رغبة، فيمكنهم اتخاذ خطوات عملية أمام إسرائيل وليس فقط إصدار بيانات إدانة ضعيفة”، قال عصفور. “صحيح أن هناك خلافاً داخلياً فلسطينياً، لكن لا يوجد خلاف حول الخطوط العامة. وإذا كان المجتمع الدولي يريد حل الدولتين، فيمكنه توفير مظلة للفلسطينيين مثل الاعتراف بحدود 1967 والإعلان عن تقديم حماية دولية. وأيضاً النضال الحقيقي ضد مشروع الاستيطان”.

“في السنوات الأخيرة، إسرائيل تتصرف وكأنه لا يوجد أي ضغط فعال. وفي ظل غياب رؤية فلسطينية واضحة حول الخطوة القادمة، فسيؤدي هذا إلى طريق مسدود”، قال عصفور. وليس عبثاً ذكر غياب الرؤية الفلسطينية. “بدون وحدة داخلية على قاعدة تجديد المنظومة السياسية وإجراء انتخابات تؤدي إلى تجديد شرعية القيادة، فلا يمكن توقع التقدم أو تحرك دولي فعال”. هذا بشكل خاص في الأيام التي تسيطر فيها حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل، كل هدفها تدمير طموحات الفلسطينيين بتقرير المصير، أو تدمير الحركة الوطنية الفلسطينية.

       جيل ثان للاتفاق

أحمد (اسم مستعار) لا يعرف أوسلو إلا من خلال القصص؛ فقد ولد بعد التوقيع على الاتفاق، في وقت ما من مراحل تبدد الأمل. في الانتفاضة الثانية كان طفلاً. عهد السذاجة. الآن هناك جيل كامل استيقظ، يؤمن بأن فشل أوسلو هو الذي أوصل الفلسطينيين إلى المكان الذي هم فيه الآن، وأن الاتفاق هو الذي أدى إلى أن مخيم بلاطة للاجئين، مكان سكن أحمد، حيث ما زال قائماً. “أوسلو بالنسبة لأبناء جيلي هو السلطة الفلسطينية”، قال. “المعنى هو غياب أفق وغياب حلم. نحن لا نعرف إلى أين نذهب”.

إذا اعتبرت إقامة السلطة في تلك الفترة قاعدة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقبلية، “فالعامل الذي يمنع المقاومة ويمنع الضغط على إسرائيل تعتبر الآن في نظر الشباب، لا سيما في مخيمات اللاجئين”، قال أحمد. “في الحقيقة السلطة تقوم بإبعاد تحقيق الطموحات الوطنية الفلسطينية”.

لا يقول أحمد ذك لإيمانه بأن المزيد من العمليات وعمليات إطلاق النار هي التي ستجلب الحل، بل المطلوب مظلة تنظيمية واستراتيجية واضحة. “نحن جيل أمل له”، قال بيأس. “القيادة منقسمة، والأفق السياسي مغلق، وهناك حكومة مستوطنين تسيطر على الأرض. مشاعر خيبة الأمل هذه ترافق جيل ما بعد أوسلو، جيل شهد الانتفاضة الثانية أو ولد بعدها. ومنذ ذلك الحين وهو يرى الواقع يزداد سوءاً”.

بقي للفلسطينيين الآن (ربما ليس فقط لهم) سؤال، وهو: ما الذي بقي بالأساس من اتفاق أوسلو؟ قال عصفور إنه لم يبق شيء. عملياً يمكن إلغاؤه في أي لحظة. في السنوات الأخيرة، فوّض المجلس الوطني الفلسطيني محمود عباس باتخاذ القرارات حول الاتفاقات التي تم التوقيع عليها مع إسرائيل. ولكنه حتى الآن يتجنب القيام بأي خطوة تحطم الأدوات. ربما، كما قال في السابق مصدر فلسطيني رفيع، أن أحد أسباب الجلوس على الجدار هو أن إلغاء الاتفاق يعتبر إلغاء للسلطة. ومن الذي سيتنازل عن التنظيم الذي يترأسه.

لكن ليس مستقبل أوسلو هو فقط محط التساؤل، بل ومستقبل حل الدولتين. “تداعيات أوسلو والواقع الآن يلزمان بإجراء تغيير في الاتجاه”، قال البروفيسور أسعد غانم من كلية العلوم السياسية في جامعة حيفا. في محادثة مع “هآرتس”، قال إن “التوقيت الذي وقع فيه اتفاق أوسلو كان مثالياً وكان هناك مجتمع مدني نشط، وكان المناخ أن إسرائيل مستعدة أيضاً لاتفاق سياسي”، لكن هذا لم يحدث. “الخطأ كان أن اليسار في إسرائيل خاف من الاتفاق الدائم أو أنه لم تكن لديه الشجاعة للتقدم بسرعة”، يفسر غانم الماضي. “في الساحة الفلسطينية، ذهبوا مع اتفاق مؤقت بدون وضوح كيف ستكون النهاية”. في الوقت الذي انقضى اليسار الإسرائيلي واختفى، تحول نتنياهو إلى الحاضر والمستقبل.

الآن، أصبح كل ذلك غير ذي صلة، قال غانم. الآن يجب أن يكون الأساس دولة واحدة للشعبين. “فيها مساواة وليس دولة أبرتهايد”، أكد، “هذا يحتاج إلى تغيير مقاربة الطرفين، لا سيما من ناحية القيادة الفلسطينية التي ستكون مبلورة وأيضاً تتوجه إلى المجتمع الدولي برؤية واضحة – بما أن حل الدولتين قد فشل، فقد حان الوقت لتغيير الاتجاه”.

 

 هآرتس