في اللحظة الأولى بدا بيان الرئيس الأمريكي جو بايدن ارتجالياً من منافس في انتخابات تمهيدية. حصل هذا في نيودلهي السبت في قمة الـ G20. فقد أعلن رئيس القوة العظمى المؤثرة في العالم عن مشروع ضخم يكاد يكون خيالياً، ينوي إطلاقه قريباً مع شركائه. قطار شحن من الهند إلى عمق قارة أوروبا، يمر عبر شبه الجزيرة العربية، يواصل إلى الأردن وإلى إسرائيل ومن هناك تنقل البضائع إلى أوروبا. أطلق بايدن إعلانه هذا بحضور رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي اورسولا فون در لاين، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
ولد في إسرائيل إعلان عناوين سمينة، لكن كيف قالوا عن لاعب الصد في بيتار يروشلايم؟ ضربة في “الأوف سايد”. هكذا كانت تلك العناوين أيضاً. الانطباع العام الذي نشأ هنا أن مشروع القطار عابر القارات هو علامة على السلام المستهدف مع السعودية. لكن ما العمل عندما يدور الحديث عن حدث آخر. صحيح أن السعودية مشمولة أيضاً، لكنه لم يولد من أجلنا، نحن الإسرائيليين، وإن كنا نلنا شرف أن نكون جزءاً من قائمة السواقين.
الفكرة مجدية، بسيطة بل وتحظى بموافقة الشركاء وحماستهم. ما يلزمه الآن هو التمويل أساساً. خط قطارات كهذا سيقصر قناة المواصلات البحرية إلى النصف، التي تشكل اليوم خطوط التجارة من شرق آسيا والخليج العربي إلى الدول الأوروبية. النقل على السكة أرخص من النقليات البحرية، وتقصير أيام الرحلة يخفض الكلفة بضعفين وثلاثة أضعاف.
طول الرواق المقترح نحو 10 آلاف كيلومتر. نقطة الانطلاق هي الهند، ومن هناك إلى الإمارات والسعودية (وفي المستقبل أيضاً إلى إمارة عُمان)، ثم إلى المملكة الأردنية ومنها إلى حيفا. من هناك تحمل البضائع على السفن إلى ميناء بيراوس في اليونان. ومنه توزع في الشاحنات إلى الدول المختلفة في القارة.
إضافة إلى الجدوى الاقتصادية، فإن مشروع القطارات الهندي – الأوروبي يشكل ضربة للاقتصاد الصيني، وعملياً هو خطوة أمريكية استراتيجية من مجال القتال المالي. من اعتقد أن الحروب تجرى بالسلاح والمدافع مدعو لمتابعة صراع الجبابرة بين القارات، الذي يجري في مسألة النقليات من شرق آسيا إلى أوروبا. بايدن نجح حالياً، من خلال تحالفات مع الأوروبيين والدول العربية بضرب مشروع مواز للصينيين بدأ في 2012.
خط القطارات الصيني يخرج من مدينة شونغ شينغ في جنوب غرب الصين، حتى دويسبورغ في ألمانيا. مساره بطول 11 ألف كيلومتر يمر في كازخستان، ثم إلى روسيا، فروسيا البيضاء وبولندا، ومن هناك إلى ألمانيا.
بخلاف خط السكة الصيني، لم يحظ المشروع الذي أعلن عنه في نيودلهي باسم له بعد. لكن القاعدة الاقتصادية والإرادة الطيبة موجودتان. نجحت الإمارات حتى الآن في تمديد شبكة قطارات شحن في أراضيها، أما السعودية فليس بعد، لكن ولي العهد محمد بن سلمان خصص 20 مليار دولار لتمديد خطوط سكك حديدية في أراضي المملكة. هذا مبلغ بسيط، لكنه يعبر عن نية طيبة من جهته. ليس صدفة أن كانت هناك مفوضة الاتحاد الأوروبي في لحظة الإعلان.
استقبلت أوروبا الفكرة برغبة، ليس بسبب التخفيض المرتقب لكلفة النقل من شرق آسيا إلى أراضيها، بل بفضل إمكانية الاستثمار الأولى. ولما كان الصينيون قد تم إقصاؤهم عن المشروع، فإن الشركات الأوروبية الآن في رأس القائمة لتمديد الخطوط؛ للإسبانيين مثلاً تجربة لا بأس بها، فهم شركاء في تشغيل خط قطار الحرمين الذي يربط مدينتي مكة والمدينة. يمكن للأوروبيين ان يعلموا شيئا أو اثنين في مجال القطارات حتى للأمريكيين. للعجب، يعدّ القطار عندهم وسيلة قديمة نسبياً.
إيطاليا استبدلت القطارات
يوسي فيشر من تل أبيب، خبير دولي للسياحة والطيران، أضاء عيني في حديثنا هذا الأسبوع عن نتيجة فرعية طيبة قد تنشأ عن المشروع لشركاء الولايات المتحدة. الهند، التي تسعى إلى إعادة تسليح جيشها القديم نسبياً، كفيلة بأن تحظى بفضل التقرب من بايدن بعتاد عسكري أمريكي متطور. السعوديون، كما نشر، يجرون محادثات مع الأمريكيين على مشروع نووي خاص بهم، ومشروع القطارات كفيل بتحسين المحادثات وتقريب واشنطن منهم. يعتقد فيشر أن السعوديين يتوقون لنيل موافقة من الأمريكيين على حلف دفاع مشترك حتى قبل الاتفاق النووي. حلف كهذا يمنحهم طائرات قتالية وعتاداً عسكرياً متطوراً، وتعهداً أمريكياً للدفاع عنهم إذا ما تعرضوا للاعتداء. وكل هذا في الوقت القريب. الإمكانية العسكرية للنووي يمكنهم أن يحققوها، بعد سنوات طويلة.
ويضيف فيشر بأن خط السكة من الهند إلى أوروبا ينسجم مع رؤية النمو التي يطمح إليها ولي العهد السعودي. فمحمد بن سلمان يعيد بناء بلاده. والسعودية -وفق رؤيته- لن تكون بلداً سياحياً فحسب، بل بيت للطاقة الخضراء وحماية البيئة. وخط السكة من الهند إلى أوروبا سيكون شرياناً مركزياً لتوريد الوقود لصناعة السيارات والطاقة في الغرب.
وقال فيشر إن حلفاء بايدن أخرجوا الصينيين من الصورة؛ فرئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، أعلنت قبل بضعة أيام نزولها من خط القطار الصيني. قبل ذلك، الحرب في أوكرانيا مست به، إذ إنه يمر في روسيا وروسيا البيضاء”. يدل هذا المشروع على أن السعودية قريبة جداً هذه الأيام من البيت الأبيض. بوسعه أن يحذر ممن يميل لخسارة الهيمنة الأمريكية في المنطقة. في السنوات الأخيرة، لوحت السعودية للبيت الأبيض بالورقة الصينية كوسيلة تهديد. وبالتوازي، أظهرت لبايدن بأن الرياض ليست بيتاً حميماً له في حالة أنه اعتقد ذلك. عندما هبط بايدن في السعودية في صيف 2022، استقبله بن سلمان ببرودة جمة، وسارع لتسريب حديث التوبيخ الذي أجراه على مسمعه لدى هبوطه على أرض المملكة. يجدر بالذكر أن عمر ابن سلمان هو نصف عمر ضيفه. بعد ذلك، فتح السعوديون أمام الصينيين بابهم ليلعبوا دوراً مركزياً في التقرب مع إيران. بكين كانت عرابة التقرب، والتي ذابت حالياً. والآن عادت واشنطن والرياض إلى دائرة الاتصالات الحميمة. محادثات على النووي، جس نبض على حلف دفاع عسكري، والآن مشروع ضخم في مجال النقليات أيضاً.
ويقول فيشر إن “للمملكة السعودية دوراً حاسماً وتاريخياً في تغيير وجه الشرق الأوسط، وتحويله من برميل النفط ومادة التفجير للعالم إلى منطقة سياحية كبيرة وناجحة. لتنفيذ هذه الرؤية، ثمة حاجة للهدوء والأمن الإقليمي مع الجميع”.
مشروع القطار المستقبلي يحمل في طياته عدة استنتاجات ورسائل. السعوديون والإماراتيون، وعملياً كل الدول العربية، تفضل قربها من الأمريكيين على الصينيين. وإذا ما غمزوا لبكين للحظة، فهذا لانعدام البديل أو ربما لصرخة “امسكوا بي”. وهو يدل على أن الغرب ليس ساذجاً، أو أنه لا يفهم خطر السيطرة الصينية على الاقتصاد العالمي، بل ويعرف أيضاً كيف يضع الحواجز في وجهها.
وهناك رسالة تواضع لنا، نحن الإسرائيليين؛ فالشرق الأوسط والعالم الواسع بعامة، لا يدور حولنا. أحياناً نحن فقط، مثلما كتب مئير غولدبرغ، سدادة في فوهة زجاجة.