اتفاق أوسلو هو أحد المفترقات الحاسمة في تاريخ النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني بشكل خاص والنزاع الإسرائيلي – العربي بشكل عام. رغم أن الحدث رافقته عاصفة قوية، وعانى من الهشاشة، ولم يحصل على الإجماع في أوساط الشعبين إلا أن أُسسه ما زالت قائمة حتى الآن. هكذا، من عارضوا هذه العملية، مثل اليمين في إسرائيل الذي سيطر على حكوماتها في الثلاثين سنة منذ التوقيع على الاتفاق، يتعاملون معه كحقيقة قائمة، سواء بسبب تعبيراته الثابتة التي تجذرت على الأرض أو بسبب الدعم الدولي الكبير لهذه العملية، أو إزاء الإدراك بأن أي بديل سيتم تطبيقه بدلاً منه سيجبي من إسرائيل ثمنا استراتيجيا باهظا.
جسّد اتفاق أوسلو عدداً من السوابق التاريخية الدراماتيكية. هذه هي المرة الأولى التي اعترفت فيها قيادات الشعبين ببعضها، وقامت ببلورة اتفاق يقوم على تقسيم جغرافي للبلاد. في أعقاب الاتفاق تم تشكيل السلطة الفلسطينية – الكيان السياسي الفلسطيني الأول في “أرض إسرائيل” – فلسطين التاريخية – حيث سيطرت على الجمهور الذي يعيش فيها، حتى لو أنها لم تحصل على مكانة الدولة السيادية. في هذا الإطار تم نقل مركز نشاطات الحركة الوطنية الفلسطينية من الخارج (الشتات) إلى الداخل (“المناطق”)، وتم البدء في مأسسة غير مسبوقة للنشاطات السياسية فيها (حكومة ومجلس تشريعي وانتخابات وما شابه).
اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول 2000، وهي إحدى المواجهات الشديدة في تاريخ النزاع، مثلت انهيار “عهد أوسلو”، وضعضعت الحلم الذي يقول بأن الشعبين قد استبدلا لغة المواجهة بالخطاب السياسي اللطيف من اجل حل النزاع. النقاش حول أسباب فشل العملية واستئناف النضال العنيف يثير جدلا شديدا حتى الآن ترافقه الاتهامات المتبادلة، مثلا، ادعاءات إسرائيلية بخصوص تقلب ورفض الطرف الفلسطيني، وفي المقابل اتهام الفلسطينيين لإسرائيل بتغيير مستمر للحقائق على الأرض. مع ذلك، يتفق الطرفان على أن امتداد المفاوضات لسنوات عديدة بدلاً من القرارات الحاسمة والسريعة، شكل عقبة رئيسة، مكنت من حدوث الانقطاع والتراجع والتشويش على العملية.
السنوات الثلاثون التي مرت منذ التوقيع على الاتفاق رافقتها تقلبات في العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، لكن أيضا في صورة الساحة الفلسطينية التي انقسمت إلى قسمين، عندما سيطرت “حماس” على القطاع في 2007. هكذا، يوجد بين البحر والنهر الآن واقع هجين يشبه الساحة الأثرية، يشمل مجموعة متنوعة من الأوضاع المتشابكة مع بعضها، والتي تمثل مبادرات استراتيجية وتجارب تاريخية بدأت في التشكل. ولكنها قتلت في مهدها. في هذا الإطار هناك خمسة أوضاع سياسية وأحوال مدنية فلسطينية: مناطق أ في “يهودا” و”السامرة”، التي تسيطر عليها السلطة، ومناطق ب في الضفة الغربية، التي تقع تحت المسؤولية المدنية الفلسطينية والمسؤولية الأمنية الإسرائيلية، ومناطق ج (63 في المئة من أراضي “يهودا” و”السامرة”)، توجد تحت سيطرة إسرائيل، وقطاع غزة، الذي تحكمه “حماس”، والفلسطينيون الذين يعيشون في مناطق غير واضحة، وسكان شرقي القدس، الذين منذ العام 1967 لديهم مكانة مقيم وغير مواطن؛ والى جانب كل ذلك المواطنون العرب الإسرائيليون.
بعد أن جربوا كل أنواع العلاقات فان الشعبين المتعبين يغرقان في نوع من الوضع الراهن الذي يقوم على إعطاء الأولوية لتطوير “هنا والآن”. تحل الأيديولوجيا الكبرى للماضي محل السلام الاقتصادي الذي تحول إلى سياسة غير رسمية لإسرائيل في السياق الفلسطيني، ويتم الدفع بها قدماً بوساطة الكثير من “بادرات حسن النية” و”التسهيلات” في مجال التجارة والبنى التحتية والأموال والتشغيل. ترتكز هذه السياسة على افتراض إسرائيلي قديم يقول إنه بوساطة الحفاظ على أو تحسين حياة الفلسطينيين يمكن التوصل إلى الاستقرار الأمني ومواصلة السيطرة على “المناطق” دون الحاجة إلى اتخاذ أي قرارات حاسمة.
عملياً، يجسد السلام الاقتصادي انتصارا باهظ الثمن. فهو في الواقع يمكن من التوصل إلى الاستقرار الأمني على المدى القصير والمتوسط ويمنع سيناريوهات مثل الانتفاضة الثالثة، وفي الوقت ذاته يعمق الاندماج بين المجتمعين. هذه، إذاً، عملية صهر لا تنبع من قرارات سياسية أو تخطيط استراتيجي، بل هي تتحقق في إطار روتين حياة يومي، رمادي وبيروقراطي، يقوم على التصاريح والتأشيرات وشق الطرق ومد خطوط الاتصالات.
بشكل عام انشغال إسرائيل بالمسألة الفلسطينية محدود جدا. ويبدو أن القيادات أو الجمهور، على حد سواء ، يتطلعون إلى “الهرب” من نقاش معمق حول الموضوع. وعندما يتطور مثل هذا الخطاب فانه يتميز بأنه خطاب عفا عليه الزمن. النقاش حول البدائل الاستراتيجية للنزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، يبرز بديلين تمت مناقشتهما بلا توقف، حتى لو أن أهميتهما ضاعت.
البديل الأول هو حلم الدولتين. على الأقل في المدى المنظور توجد صعوبة جوهرية لتطبيق هذه الرؤية كما تم وضعها قبل ثلاثين سنة، بسبب تغير المنظومة الفلسطينية التي أصبحت ساحتين منفصلتين تحركهما أفكار متنافسة، إضافة إلى التغيرات التي طرأت على الأرض والبارز منها الاستيطان اليهودي – 110 آلاف مستوطن في 1993 والآن تقريبا نصف مليون مستوطن.
البديل الثاني هو إدارة النزاع، التي جوهرها تحسين الواقع في الساحة الفلسطينية وخاصة بوسائل اقتصادية. في هذا السياق تظهر فكرة الحكم الذاتي المدني بدون بعد جغرافي، التي طرحها بيغن في نهاية السبعينيات؛ تقليص النزاع، الذي يركز على تحسين حياة الفلسطينيين وتقليص الاحتكاك بينهم وبين إسرائيل، بدون فاصل جغرافي بين المجتمعين، وأيضا مبادرات مثل الكونفيدرالية بدون حدود، أو تأسيس اتحاد إمارات في “يهودا” و”السامرة” على أساس عائلي – قبلي. هذه الأفكار لم يحصل أي منها على الاستجابة في أوساط المنظومات الفلسطينية أو الدولية. وتقريبا جميعها مشوبة بالعيب الذي يتمثل بالاعتماد الزائد على العامل الاقتصادي الهش، مع تجاهل الفجوات الفكرية والسياسية العميقة بين المجتمعين.
امام إسرائيل الآن بديلان استراتيجيان فقط، يعكسان الاختيار بين السيئ والأسوأ. من جهة، الدولة الواحدة والتي هي رؤية قديمة يتم تطبيقها بالتدريج الآن دون تخطيط أو بدون رغبة أو وعي.
يمكن التقدير بأن هذا الكيان سيتطور على مراحل. المرحلة الأولى، إضعاف السلطة الفلسطينية، مثلا، عند انتهاء عهد أبو مازن، والمرحلة الثانية هي ضم إسرائيل بالتدريج للضفة الغربية، والثالثة هي إيجاد محتمل لواقع أبرتهايد إزاء عدم رغبة إسرائيل في إعطاء الجنسية للفلسطينيين في “المناطق” التي ستكون تحت سيطرتها، والرابعة، الإعلان بشكل رسمي عن الدولة الواحدة، التي جميع مواطنيها متساوون في الحقوق، وذلك بعد ضغوط خارجية وداخلية ستجد إسرائيل نفسها واقعة تحتها. من المرجح أن يكون هذا هو بداية فصل تاريخي جديد بروحية “البلقان”.
كل شعب من الشعبين يطمح إلى أن يكون سائدا في الكيان المستقبلي، ما يمكن أن يقود إلى مواجهة كبيرة جدا بينهما، ربما ستكون أكثر شدة من التي كانت في السابق.
في الطريق إلى الدولة الواحدة فانه ما زالت هناك محطة واحدة للتوقف وهي خطوة إسرائيلية أحادية الجانب. القصد هو الانسحاب إلى خطوط حدود تترك تحت سيادة إسرائيل معظم المستوطنات في “يهودا” و”السامرة” وغور الأردن، وبذلك سيتم ضمان معظم مصالحها الأمنية.
نوصي بأن تكون هذه الخطوة منسقة مع الطرف الفلسطيني، لكن إذا كان غير معني أو غير قادر على ذلك فيمكن بل من الضروري تطبيقه بشكل أحادي الجانب.
إن سابقة الانفصال عن قطاع غزة نتجت عنها أخطار يمكن أن تتطور أيضا بعملية أحادية الجانب في “يهودا” و”السامرة” وعلى رأسها: سيطرة جهات متطرفة، ووضع تهديد أمني شديد لإسرائيل، واستمرار اعتماد الفلسطينيين اقتصاديا على إسرائيل، والإبقاء على الغموض بخصوص مكانة الكيان الفلسطيني؛ والأخطر من كل ذلك هو شرخ كبير في المجتمع الإسرائيلي.
حتى الآن يدور الحديث عن بديل افضل من الدولة الواحدة، واقع يمكن أن يعرض للخطر جوهر حلم الصهيونية، وجود إسرائيل كدولة ديمقراطية مع أكثرية يهودية.