أثار نشر محاضر جلسة الحكومة، التي تمت فيها المصادقة على اتفاق أوسلو، نقاشات تركزت بالأساس على مواضيع معينة مثل هل الاتفاق نجح أم فشل، وما هي في الحقيقة نوايا وأهداف الإسرائيليين الذين قاموا بوضعه، وهل كانوا يطمحون حقا إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة. هذه النقاشات مهمة الآن أكثر من أي وقت، لأن من اطلقوا قبل ثلاثين سنة شعارات مثل "مجرمو أوسلو للمحاكمة" و"لا تعطوهم البنادق"، يجلسون، الآن، على سدة الحكم ويهاجمون رؤساء جهاز الأمن، الذين يواصلون التمسك باستراتيجية أوسلو - التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، بما في ذلك تسليحها. النقاشات مهمة؛ لأن اتفاق أوسلو ما زال حيا وقائما في رام الله وفي غزة، وهو يزعج تطبيق "خطة الحسم" من مدرسة بتسلئيل سموتريتش، وتطبيق نوايا التطهير العرقي للكهانيين.
هناك ثلاث نخب شكلت اتفاق أوسلو، العسكرية والاقتصادية والسياسية. في العام 1994 تم التوقيع على "اتفاق باريس"، الذي يدافع عن مصالح النخبة الاقتصادية في إسرائيل عن طريق فرض الجمارك المرتفعة ومنع الاستيراد الرخيص وتحويل الاقتصاد الفلسطيني إلى سوق أسيرة. أيضا يخلق الاتفاق اعتماد رؤساء السلطة الفلسطينية، سواء في رام الله أو في قطاع غزة، على إسرائيل. تقوم اتفاقات أوسلو أيضا على صورة التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، الذي في إطاره يتم تقاسم السيطرة على "المناطق" المقسمة إلى مناطق "أ" الحضرية، التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، والى مناطق "ب"، التي فيها الجيش الإسرائيلي مسؤول عن الأمن والسلطة مسؤولة عن السيطرة المدنية، ومناطق "ج" التي تقع تحت سيطرة إسرائيل الأمنية والمدنية. الفلسطينيون في مناطق "ب" يعانون من التنكيل والمذابح التي ينفذها المستوطنون الذين يعيشون في مناطق "ج". وحقيقة أن القرى الفلسطينية لا تحصل على الحماية تظهر بوضوح أن السلطة الفلسطينية ما زالت تحترم تقاسم الصلاحيات التي تم تحديدها في اتفاقات أوسلو، ولكن من غير الواضح كم من الوقت تستطيع الصمود بهذا الشكل.
تواصل اتفاقات أوسلو كونها مبنى سيطرة كولونيالية يعكس أهداف رؤساء جهاز الأمن والنخبة الاقتصادية. ولكن كان لاتفاقات أوسلو أيضا منطق سياسي، استهدف الدفع قدما بالحوار مع القيادة الفلسطينية وبناء الشراكة، التي تضمن إنهاء سيطرة إسرائيل في المستقبل. سمي هذا "عملية سلمية"، والتي ماتت حقا. اتفاقات أوسلو لم يتم القضاء عليها على يد يغئال عمير أو يد بنيامين نتنياهو، الذي وقف على رأس المحرضين ضدها، بالعكس. فمن أجل أن ينتخب رئيسا للحكومة قام نتنياهو بتغيير موقفه، وتبنى اتفاق الانسحاب من الخليل ووقع على اتفاق مع ياسر عرفات، "اتفاق واي"، الذي رسم استمرارية العملية عن طريق ثلاثة انسحابات (نبضات) أخرى.
من قام بخرق الاتفاق ووقف الحوار وإلغاء المفهوم الإجرائي الذي كان في أساس اتفاق أوسلو هو إيهود باراك. منذ العام 1993، عندما كان رئيس الأركان، رفض الحوار والتعاون مع الفلسطينيين ووصف اتفاق أوسلو بأنه جبن سويسري مليء بالثقوب. وحسب تقديري فإن اسحق رابين عرف أن باراك سيخرب الاتفاق إذا علم به مسبقا، لذلك فقد قام بإبعاده عن المفاوضات. في اللحظة التي انتخب فيها رئيسا للحكومة خرق باراك "اتفاق واي" واعلن بأنه لن تكون هناك أي انسحابات وأنه سيتفاوض حول الحل النهائي. خلال سنة تجنب تشكيل طاقم للمفاوضات. وفي تموز 2000 فرض على ياسر عرفات "مؤتمر الحسم" في كامب ديفيد، دون الإعداد المسبق، وفي الوقت الذي لم يكن لديه فيه حكومة وحذره جهاز الأمن من الفشل. خطط باراك لخطواته التي هدفت إلى تحطيم الثقة باحتمالية عقد السلام والى إنهاء البعد العملياتي لـ"أوسلو" وكأنه يقوم بتفكيك ساعة سويسرية. عملية الخداع الجماهيرية التي قام بها بالكامل وصفتها في كتابي بعنوان "سلام متخيل – حوار حرب، فشل الزعامة والسياسة الديمقراطية في إسرائيل" (إصدار ريسلينغ 2007).
ضد الرؤية السياسية التي تؤيد عملية ديناميكية لتغيير المواقف، ولحوار وبناء شراكة سياسية مع القيادة الفلسطينية، التي عبر عنها رابين في جلسة الحكومة الأولى التي ناقشت اتفاق أوسلو، والتي استمر في الدفاع عنها إلى أن قتل، قام باراك بتطوير استراتيجية سيطرة قسرية أحادية الجانب بدون حوار. ولكن في البداية كانت ثمة حاجة إلى إقناع "معسكر السلام" بأنه لا توجد عملية. بعد انتهاء مؤتمر كامب ديفيد، الذي تم التخطيط له ليكون احتفالا انتقاليا قبل حفل تمزيق الأقنعة، أعلن بأنه قام "بقلب كل حجر" من اجل التوصل إلى الاتفاق، وأنه "لا يوجد شريك"، ورفض اقتراح التوقيع على اتفاق مؤقت آخر ومواصلة المفاوضات.
في ختام خطابه، اعلن بأنه، الآن، يستطيع "النظر في عيون كل أم عبرية"، بالإشارة إلى حركة "الأمهات الأربع" والحاجة إلى أن يبدؤوا هنا بالاستعداد لسيناريو التضحية بالأبناء. من هنا يتبين أن باراك عرف أنه بعد تفجير "العملية" ستأتي انتفاضة فلسطينية، وهذا ما حدث، حيث جاءت وتسببت بمئات القتلى في الأشهر الأولى وقضت بالكامل على الثقة بالفلسطينيين وبالعملية السلمية. فقط عندما تبين أن باراك يقود معسكر السلام إلى هزيمة صارخة في الانتخابات فقد سمح لطاقم المفاوضات بالذهاب إلى طابا. ولكن عندما كان الطاقم على بعد خطوة عن الاتفاق قام باستدعائه للعودة إلى القدس بسبب تنفيذ عملية "إرهابية".
بعد اربع سنوات على الانتفاضة وخمسة آلاف قتيل فلسطيني وإسرائيلي، اكمل رئيس الحكومة، ارئيل شارون، استراتيجية باراك أحادية الجانب عن طريق الانسحاب من قطاع غزة، عملية عسكرية للسيطرة من الخارج، وبذلك دعم مقاومة "حماس" العنيفة والسيطرة على القطاع، كما حذر رئيس الأركان، موشيه يعلون، ورئيس "الشاباك"، آفي ديختر. باراك وشارون هما من حفرا قبر اتفاق أوسلو. وقد ركزا على القضاء على الشريك السياسي، وبذلك قاما بتشكيل اتفاقات أوسلو على صورة سيطرة كولونيالية، "فرق تسد"، التي تستمر حتى الآن.
كما قلنا فإن مناقشة اتفاقات أوسلو ونوايا صائغيها ونتائجها هي مهمة الآن؛ لأن القوى التي عارضتها قبل ثلاثين سنة تقود الآن الحكومة من اجل حل السلطة الفلسطينية ومواجهة عنيفة. بالتأكيد تخوف رؤساء الأمن مبرر، في الحاضر وفي السابق، من فقدان السيطرة. لذلك، يقود ضباط وجنود الاحتياط الاحتجاج إلى جانب النخبة الاقتصادية التي شكلت اتفاقات أوسلو. ولكن المقاربة المحافظة المعنية بالحفاظ على بنية السيطرة لـ"أوسلو" لا تكفي إذا تنازلت عن المنطق السياسي الذي بحسبه الاتفاق هو عملية استهدفت إحداث تغيير حقيقي. لن ينجح الاحتجاج في وقف الائتلاف المسيحاني طالما أنه لا يوجد لديه أي بديل سياسي عن خطة الحسم لسموتريتش، وطالما أنه لا يوجد على يمينه قيادة سياسية تعتبر الفلسطينيين شركاء في السلام وليس عملاء للحفاظ على أمن المستوطنين. هذه القيادة يجب أن تطرح على المجتمع الإسرائيلي رؤية من العدل والمساواة، وليس فقط للفلسطينيين، بل أيضا للقبائل التي يتشكل منها حلم يمكن أن يتغلب على الشرخ الآخذ في التعمق في سلطة حكومة عنصرية، التي تزيد التحريض والكراهية. هذه المهمة غير سهلة، لكنها ممكنة إذا أخذنا في الحسبان الطاقة الكبيرة التي تم الكشف عنها في الاحتجاج والكوارث التي تجرنا إليها الحكومة وحجم المعارضة التي تثيرها، الآن، والتي يمكن أن تثيرها في المستقبل أيضا.
عن "هآرتس"