سلّط «إتفاق أوسلو» في ميلاده الـ30، المزيد من الأضواء الكاشفة، على المأزق، متعدد الأوجه، الذي تعيشه القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، والذي أدخلت فيه شعبها، وأنهكته بسياسات مسدودة الآفاق، تقوم على التمسك بجثة إتفاق وتفاهمات وإلتزامات، تخلى عنها الجانب الإسرائيلي، وباتت هذه الإلتزامات المذلة، ملزمة لها وحدها، وأساساً رئيساً لصون مصالحها الطبقية ونفوذها السياسي، وإطلالتها الكئيبة على المجتمع الدولي، من نافذة التذلل للوعود الأميركية الزائفة، ولأحلام فاسدة تدور حول نفسها، في محاولة لاستحضار مشروع ولد قبل أن يموت، أطلق عليه «حل الدولتين»، بديلاً للتخلي عن المشروع الوطني الفلسطيني، الذي باعته القيادة السياسية، وباعت معه مصالح الشعب وحقوقه الوطنية المشروعة، لتشتري بقاءها في سدة البقاء والنفوذ.
فالجانب الإسرائيلي، وقد أدرك جيداً، كيف نجح في اصطياد القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية في فخ أوسلو، والتلاعب بها خلال 30 عاماً، يغلق عليها منافذ الخروج من الحفرة السحيقة التي قادت إليها م. ت. ف، وشعبها، تخلى من جانبه عن إلتزاماته نحو الاتفاق، ونحو استحقاقاته، فلم تعد الضفة الفلسطينية مقسمة إلى مناطق ثلاث، وبات التنسيق الأمني ملزماً من جانب واحد، بخدمة المشروع الأمني الإسرائيلي، وسقط الالتزام بمفاوضات الحل الدائم للبت بالقضايا الكبرى، وتمّ الإعلان عن مشروع الضم والحسم، وأن (فلسطين) هي ملك للشعب اليهودي حصراً، من البحر إلى النهر، وبات الفلسطيني أمام 3 خيارات، كلها مذلة، ليست من بينها حق تقرير المصير، أحلاها أن يكون على رأس سلطة تكون وكيلاً أمنياً لإسرائيل، وتقبض على مناطق التواجد العربي الفلسطيني في الضفة، لتبقى مستعمرات اقتصادية تضخ لإسرائيل اليد العاملة الرخيصة، وتشكل سوقاً استهلاكية للبضائع الإسرائيلية، بعد أن فقدت دورها ممراً للتطبيع مع العرب، وقد صار «تحالف أبراهام» بوابة مشرعة أمام التوسع الإسرائيلي عربياً، وطوقاً يقيد السلطة الفلسطينية معلقة على تحول الأحلام الفاسدة إلى حقيقة.
أوسلو اتفاق ومشروع للحل فاشل وساقط، حمل قرحته في معدته، منذ اللحظة الأولى لولادته، شكل مناورة إسرائيلية استراتيجية كبرى، نجحت في إجهاض الانتفاضة الأولى، ومحو آثارها، واصطياد قيادة سياسية بنت أهدافها على التقديرات الفاشلة، وعلى شعورها بالعجز، فنمت سلطة فاشلة عاجزة، لا توفر الحماية لا لشعبها ولا لمشروعه الوطني، ولا لأرضه التي يبتلعها «مشروع الضم»، ولا لمياهه التي تصادرها المستوطنات المنتشرة في طول الضفة وعرضها، ولا لكرامته الوطنية، تحتمي بالثكنات، سلطة ذليلة أمام شعبها وأطراف الحالة الإقليمية، ما يعلي الصوت الإسرائيلي.
فشلت السلطة حتى في تحقيق وعود كاذبة، أطلقت في سماء الحديث عن التحول إلى دولة، وبناء المؤسسات، و«عناقيد» الاقتصاد الوطني، لتعترف بعد سنوات من الفساد والأكاذيب، والخطابات الرنانة، أن التنمية تشترط رحيل الاحتلال، دون أن تقدم مشروعها التنموي البديل، أو حلها لرحيل الاحتلال، تبيض الوضع بلا تنمية، وبلا دولة، ويبقى الاحتلال هو السائد وهو مصدر القرار.
سلطة باتت مرجعها السياسي الوعود الأميركية، وحلمها الأكبر أفق سياسي، وهو ككل أفق كلما اقتربت منه، ابتعد عنك، تحاول أن تستعيد رهبتها وهيبتها، ليس في منازلة الاحتلال والاستيطان، بل في منازلة الشارع الفلسطيني دفاعاً عن كرامته الوطنية وعن أرضه، وعن حقه في دولته، وعن حق اللاجئين الخلاص من بؤس المخيمات والتشرد، فترفع الصوت بقطع الأيدي، وتفتح أبوب الزنازين والسجون للمقاومين والمناضلين، تلفق لهم التهم، وتشوه سمعتهم باعتبارهم يفرضون الخوة والأتاوة على المواطنين، ويعبثون بالأمن الوطني، ويزرعون الفوضى في أنحاء الضفة بمخيماتها ومدنها، تتوسل الاحتلال أن يكف عن إجرامه، وأن يوقف عملياته وأن يترك لها، هي، هذا الدور، لتؤكد استحقاقها أموال المقاصة، والمساعدات الغربية، والاعتراف بها طرفاً في المعادلة السياسية البائسة الدائرة رحاها في المنطقة، بين «منتدى النقب» و«تحالف أبراهام» وحفلة الصيد الكبرى على طريق الرياض – واشنطن – تل أبيب.
سلطة تبدو عاجزة وفاشلة، تحولت من مشروع للدولة، إلى مجرد سلطة عاقر، لا تنجب إلا المآسي والكوارث والنكبات لشعبها، حتى أنها باتت ترى في التطبيع منفذاً، تتلقى عبره فتات المساعدات، مقابل المصادقة على أعراس الإحتفاء بذبح القضية الفلسطينية والخلاص من الصداع الفلسطيني، وإحالة المقاومين والصامدين إلى محارق «هولوكوست أوسلو» و«العقبة – شرم الشيخ».
سلطة لا ترى إلا بعين واحدة، ولا ترى إلا ما تحب هي أن تراه، ولا تسمع إلا بأذن واحدة، ولا تسمع إلا ما تحب هي أن تسمعه، ولا تشعر إلا بمشاعر بليدة، ولا تشعر إلا بما تحب هي أن تشعر به.
تتعامى عن شعبها الذي حمل على كاهله قضية أنهكها أوسلو، لكنه لم يركع، بل وعند كل منعطف، يستعيد نهوضه، أقوى فأقوى، وتمتد مساحة المعركة، وترتفع رايات البطولات، ويهوي أوسلو وحده إلى الحضيض، الذي لا حضيض بعده.
في ذكراه الـ30، بدأ أوسلو يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد أن سقط، ولم يعد رقماً في الحسابات المتداولة، أفرغ جعبته المليئة بالأفاعي والعقارب، وبات علامة للعجز والفشل.
وليست مصادفة أن تترافق الذكرى الـ30 لهذا الاتفاق المعيب، مع مشهد فلسطيني بلوحتين متنافرتين:
• في جنين لوحة للبطولة رسمت بالدماء.
• وفي مكان آخر نداءات استغاثة لمركب استقله في غفلة من الزمن، ومنذ ثلاثين عاماً مغامرون ألقوا بالبوصلة بعيداً، تلاطمتهم الأمواج، ورمت بهم عند صخور تتكسر عليها أحلامهم جثثاً هامدة