يبدو أن إسرائيل لم "تتحرر" بعد من ثقافة "الغيتو" والعزلة الاجتماعية والمجتمعية، بعد، التي طالما أثقلت كاهل يهود العالم. آخر إحصائية لتعداد اليهود في العالم، تشير إلى انه بلغ ما بين 14 إلى 17 مليون إنسان، وهو نفس الرقم الذي كان عليه عام 1939، أي أن النمو السكاني بين صفوفهم خلال، نحو ثمانين سنة، عوّض فقط ضحايا المحرقة، الذين يقدر عددهم بنحو ثلث عدد اليهود في تلك الفترة، وتشير التقارير إلى أن نحو 85 % من يهود العالم يعيشون الآن في إسرائيل والولايات المتحدة.
لا نريد _ هنا _ في هذه العجالة أن نستحضر تاريخ التعايش بين اليهود والمسلمين في الأندلس وغيرها من البلاد، ولا حتى قبل حرب العام 48 في البلاد العربية، لكن الأهم برأينا، هو ما يفكر فيه اليهود / الإسرائيليون، بالذات حتى يمكن أن يتقبلهم الشرق الأوسط بأغلبيته العربية والمسلمة.
بعد نحو ثمانية وستين سنة، وبعد توقيع ثلاث معاهدات سلام بين إسرائيل وجيرانها، خاصة منهم الفلسطينيين، ما زالت إسرائيل لا تعرف طريق التعايش وما زالت تتوجس وتبث حكوماتها، خاصة اليمينية منها التي تحكم إسرائيل بشكل متوصل _ تقريبا منذ أربعين سنة، وما زالت تصد عن عمد وعن قصد، وبدافع من الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وفي ظل أوهام "إسرائيل الكبرى" ويهودية الدولة الدينية، رياح السلام وتواصل التنكر للحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني في الاستقلال.
ورغم كل التنازلات التي قدمها العرب والفلسطينيون للتوصل إلى حل وسط سياسي، إلا أن إسرائيل تصر على الانغلاق على الذات، وعدم التعايش مع جيرانها، لذا فهي تبقي على فتيل التوتر، وعلى خيار الحرب قائماً طول الوقت، وتحتفظ بشعور "الأقلية" رغم ان هناك أتباع ديانات وطوائف وقوميات اقل عدداً من اليهود في العالم. وبدلا من أن تفكر إسرائيل بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية والجولان السوري وما تبقى من أراض لبنانية محتلة ( شبعا ) لفتح الأبواب أمام "قبولها" كدولة في المنطقة، تفكر في إقامة الجدران والحواجز والأسلاك الشائكة، والإبقاء على "حبل سري" يربطها بالغرب، خاصة أميركا بالتحديد، تماما كما كان حال "المستوطنات والممالك الصليبية" قبل نحو ألف عام، والقفز عن حقيقة وجودها الجغرافي في الشرق الأوسط.
آخر ما تفتق عنه عقل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو هو الإعداد لخطة متعددة السنوات تقضي بإحاطة إسرائيل بجدران أمنية، وآخرها جدار امني على الحدود الشرقية مع الأردن، لتكتمل بذلك الجدران التي أحاطت إسرائيل نفسها بها، بعد جدار الفصل العنصري بينها وبين الضفة الغربية، الذي أقامته عام 2002، وبعد الجدار الأمني الذي أقامته على طول حدودها مع مصر، وكذلك الجدار المقام في هضبة الجولان.
الجدار الذي تخطط إسرائيل لإقامته على الحدود مع الأردن هو الرابع، بعد الجدران التي أقامتها على الحدود الجنوبية، الشمالية والشرقية مع الضفة، لتكتمل بذلك _ تقريبا إقامتها لجدران الفصل والعزل على الجهات الثلاث، ولا تبقي أفقا أمامها سوى الغرب حيث البحر يصلها بالعالم الخارجي.
غني عن القول هنا التذكير بدروس التاريخ، حيث لم تصمد" مسادّة "بحصونها في وجه الغزو الروماني، كذلك كل حصون التاريخ لم تحقق الغرض " الأمني " بالدفاع عن الدول والشعوب في وجه الغزو الخارجي، ما لم يكن هناك احترام متبادل بين الشعوب المتجاورة، ولعل في درس " طروادة " ما يغني من برأسه عقل، عن الذهاب بتفكيره إلى حقول الوهم.
لكن يبدو أن إسرائيل برأسها اليميني قد فقدت عقلها تماما، لتذهب إلى مثل هذا الخيار، الذي قد يحقق أمنا مؤقتا أو عابرا لها، لكن الأمن الحقيقي يبقى في التفاهم والتعيش مع الجيران، وفي التوصل معهم إلى حلول للمشاكل القائمة، وأولها مشكلة احتلال إسرائيل لأراضي الغير واغتصابها لحقوقهم. ولعله من نافل القول أيضا التذكير أخيراً، بان عدد المواطنين اليهود / الأميركيين يبلغ عدد اليهود / الإسرائيليين، إن لم يكن يفوقهم، ومع ذلك يتمتع أولئك بحقوق كاملة وبحريات ربما لا يتمتع بها بعض اليهود في إسرائيل، وهم متعايشون مع أغلبية متعددة الأعراق والأجناس والديانات، وحتى أن حجم التأثير السياسي لليهود الأميركيين يفوق عددهم كثيرا، وينعكس على شكل تأييد أميركي رسمي لإسرائيل، وحالة اليهود الأميركيين وواقعهم ينفيان ثقافة "الغيتو" وخيار العزلة الذي تختاره حكومات اليمين الإسرائيلي، بإغلاق أبواب التعايش مع المحيط واختيار العزلة، الانعزال والانغلاق، ويؤكد أن ما قاله نتنياهو من حماية إسرائيل من الحيوانات المفترسة، في المحيط، إنما يرتد إليه، ذلك أن الحيوانات المفترسة هي التي يتم وضعها في الأقفاص لحماية الناس من شرها، وليس العكس.