في أيلول من هذا العام، نشب خلاف بين نقابة الأطباء ووزارة الصحة، بعد أن أدلى مسؤول في الوزارة بتصريحات بشأن شبهة خطأ طبي في إحدى مستشفيات جنين تسبب بوفاة مواطنة، وطالب على إثر ذلك بتشكيل لجنة تحقيق، الأمر الذي استفز نقابة الأطباء بعد أن تطور الخلاف إلى تلاسن وتبادل اتهامات.. وصولاً إلى إصدار النقابة بياناً يدعو لإضراب شامل، ويطالب الأطباء بعدم التوجه إلى أماكن عملهم في جميع مرافق وزارة الصحة ومستشفياتها في الضفة الغربية، ووقف التعليم الطبي في جميع الكليات والمستشفيات، وأن يتوجه المرضى وسيارات الإسعاف والمرضى المنومون في المستشفيات الحكومية إلى المستشفيات الخاصة. رداً على ما اعتبرته إساءة بحق الأطباء وتنصل الحكومة من مسؤوليتها لحماية المجتمع المدني والأمن الصحي.
لم ينفذ الإضراب، لكنها ليست المرة الأولى التي تدعو فيها النقابة للإضراب الشامل، فقد خاضت سلسلة إضرابات كانت تشل القطاع الصحي كليا، مطالبة بعلاوات للأطباء، بالإضافة لمطالب مهنية أخرى.. الأمر الذي دعا الرئاسة في العام الماضي إلى اتخاذ إجراءات بحق النقابة منها محاولة حلها، وتشكيل نقابة فلسطينية جديدة، باعتبار أن النقابة الحالية أردنية، وتتبع نقابة الأطباء الأردنيين. وللرد على هذه المحاولة أعلنت النقابة عن «عصيان طبي»، والإضراب الشامل، وسحب شهادة مزاولة المهنة من جميع الأطباء الذين ذكرت أسماؤهم في المجلس التأسيسي للنقابة الجديدة.
وبررت ذلك بأن القرار يعني حل النقابة الحالية، وسحق الحريات ودفن خيار الأطباء بانتخاب ممثليهم، وسحب الشرعية من المجلس المنتخب، وترسيخ سياسة التعيين بدل الانتخاب الديمقراطي.
وكان الرئيس قد أصدر قراراً بقانون بإنشاء نقابة للأطباء الفلسطينيين، وتشكيل مجلس تأسيسي لها مدته سنة لتنظيم مهنة الطب ووضع قانون جديد للنقابة وإجراء انتخابات.. وهي خطوة مهمة وضرورية لاستكمال بناء المؤسسات الفلسطينية والتحرر من آخر أشكال الوصاية، إلا أن هذه المحاولة لم تنجح، وألغي القرار، بسبب رفض النقابة له، وبسبب تخوفات من نتائجه على الصناديق التقاعدية والتكافلية المشتركة مع نقابة الأطباء الأردنية، وكذلك من المصير المحتمل لمقر النقابة القائم في القدس التابع للنقابة من احتمالية إغلاقه من قِبل الاحتلال.
علماً أن الأطباء ومنذ تأسيس السلطة تقدموا بمسودات للمجلس التشريعي الأول عام 1996 لتشكيل نقابة فلسطينية خاصة بهم، لكن الرئيس الراحل ياسر عرفات فضّل أن يكون ذلك بعد الاستقلال الفعلي وإقامة الدولة.
والإشكالية التي ما تزال قائمة حتى الآن أنَّ نقابة الأطباء الحالية لا تشمل أطباء قطاع غزة، الذين يعملون بلا نقابة، شأنهم شأن بقية المهن الصحية والمهندسين وبقية المهن الأخرى.
الإضراب بحد ذاته حق طبيعي ومشروع لكل نقابة، وقد كفله القانون الأساسي الفلسطيني، وهو وسيلة وليس غاية، ويجب أن تسبقه خطوات احتجاجية وتصعيدية وحوار مع الحكومة، بحيث يأتي كخيار أخير، ويجب أن يُمارس بحذر وعناية بحيث لا يضر بالمجتمع والمواطنين.. لكن ما يحصل أن نقابة الأطباء (وكذلك المعلمين) يدركون أنهم يمسكون الحكومة من اليد التي توجعها، أي قطاعي الصحة والتعليم، أهم قطاعين في أي مجتمع، وعصبه الحساس، لذا تسرف النقابة أحياناً في ممارسة حقها في الإضراب، لدرجة استسهاله، حتى لو كانت هناك وسائل أخرى، مع كل الضرر والأذى الذي سيلحق بالمواطنين.
وهذا يدعونا لتسليط الضوء على مهنة الطب وواقع الأطباء بشكل عام، مع التأكيد على أهمية القطاع الطبي، سواء لتحقيق الأمن الصحي وسلامة المجتمع، أم من حيث كونه واجهة حضارية للدولة، ودليلاً على استقرارها وتطورها، ومصدر دخل مهماً لها، خاصة إذا امتلكت خدمات صحية متطورة، لكن بعض الدول اتخذت مسارات خاطئة في هذا التوجه، وتحول الطب فيها من مهنة إنسانية إلى تجارة واستثمار.
وفي فلسطين تعتبر مهنة الطب من المهن المطلوبة، التي تدر دخلاً ممتازاً، فأغلب الأطباء يعملون في الحكومة برواتب هي الأعلى مقارنة بزملائهم في القطاعات الأخرى، وهم الوحيدون الذي يحق لهم العمل بعد الدوام الرسمي في عياداتهم الخاصة.
ويحظى الطبيب الفلسطيني بمكانة اجتماعية مرموقة، وينظر الكثير من الناس للطبيب وكأنه أعلى منزلة وأرفع شأناً.. ويتمتع أطباؤنا بشكل عام بكفاءة جديرة بالتقدير، وقد ساهموا بصورة فعالة في خدمة المجتمع وفي مسيرة الكفاح الوطني من خلال خدماتهم الجليلة لجرحى المواجهات، بل إن لهم إسهامات إنسانية رائدة من خلال حملات التطوع للمنكوبين في مناطق الكوارث.
ومع تأييدنا لمطالبهم المحقة، وضرورة تحسين أوضاعهم باستمرار، إلا أن عليهم أن يتذكروا أن أوضاعهم المعيشية تعتبر من بين الأفضل، وأن إضراباتهم تلحق الضرر الكبير بالمجتمع، ما يعني ان عليهم التعقّل في ممارسة هذا الحق.
ومن ناحية ثانية، يبالغ بعضهم في تقدير نفسه، لدرجة أن بعضهم صار يرى نفسه أفضل من سائر البشر، تراه يدخل صالة الانتظار في المستشفى فيمر من بين المرضى دون اكتراث لمعاناتهم، ويتعامل مع الممرضين وسائر الموظفين بدرجة من التعالي والفوقية، وفي عيادته الخاصة لا يهمه كيف تمكن المريض من جمع ثمن الكشفية، التي صار بعضهم يغالي بها.. وفوق ذلك يمتنع عن تقديم فاتورة ضريبية!
نعلم أن دراسة الطب ليست هينة وتحتاج سنوات عديدة، وأن أهل الطبيب «صرفوا دم قلبهم» على تعليمه.. لكنه ليس الوحيد الذي دفع أهله أثماناً باهظة لتعليمه، وليس الوحيد الذي تعب وسهر في الدراسة.. ومن الخطأ اعتبار أي مهنة أفضل أو أهم من غيرها، فالطبيب قد نستغني عنه سنة كاملة، لكن عامل النظافة لا نستغني عنه يوماً واحداً. ومن الخطأ أيضاً النظر للإنسان بمعيار مهنته، فالمجتمع ينمو ويزدهر بتكامل الأدوار.
طبعاً لا يجوز التعميم، وليس جميع الأطباء سواء، هنالك أطباء نذروا أنفسهم لمهنة الطب وبروح إنسانية متعففة، ونالوا ألقاب «الطبيب الإنسان»، و»طبيب الغلابة».. لهم كل الاحترام، لكن هذا لا يعني أن الطبيب الذي يتقاضى أجراً ليس إنساناً، أو أقل احتراماً، فالطب مهنة ومصدر دخل وحيد لصاحبها، ومن غير العدالة أن نطبق هذا المعيار على الأطباء فقط لأنه لا يوجد «المواسرجي الإنسان»، و»ميكانيكي الغلابة»، و»طوبرجي المساكين».. هذه كلها مهن يعتمد عليها أصحابها، لكن عليهم أن يشعروا بمعاناة الناس وضيق أحوالهم الاقتصادية، وأن نكون أكثر رحمة بحق بعضنا.