لا يُمكن أن ينسى العالم المشهد المُؤثر باستشهاد الفتى محمد الدرة (12 عاماً)، وهو في حضن والده جمال، الذي أصيب برصاصات القنص العمد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، يوم السبت في 30 أيلول/سبتمبر 2000، وهو يُحاول حماية فلذة كبده بيدهْ رغم إصابته برصاصات جنود الاحتلال، وهو يصرخ بأعلى صوته "مات الولد... مات الولد".
تلك الجريمة البشعة التي حاول الاحتلال، ليس التهرّب فقط من ارتكابها وحماية جنوده المُنفذين، بل بتشويه الحقيقة عبر الادّعاءات الزائفة بأن الفلسطينيين هم من أطلقوا النار باتجاه جمال وولده، بعدما ادّعوا سابقاً أن المُستهدف هو طفل يهودي، وألبسوه "قلّوسة" في فبركاتهم الإعلامية.
هذا قبل أن يدّعي رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بأن محمد الدرة حيّ يُرزق.
أسلوب حماية المُجرمين يعتمده الاحتلال مترافقاً مع حملات التضليل والتشويه، وتحريف الحقيقة، كما جرى في جريمة خطف وحرق الفتى محمّد حسين أبو خضير "شهيد فجر رمضان"، يوم الأربعاء في 2 تموز/يوليو 2014، من قِبل 3 مُستوطنين أثناء توجّهه لأداء صلاة الفجر في مسجد بلدته شعفاط - شمالي القدس المُحتلة، الذي تم الادّعاء بأن اثنين قصر، والثالث يُعاني اضطرابات عقلية.
كذلك ما حصل بجريمة حرق عائلة الدوابشة، يوم الجمعة في 31 تموز/يوليو 2015، ما أدّى إلى استشهاد سعد وزوجته رهام والرضيع علي وجرح طفلهما الآخر أحمد، وقيام المُتطرفين الإسرائيليين بتأمين الدعم للمجرم عميرام بن أوليئيل، الذي اعترف بأنه ارتكبها بدوافع عنصرية.
أيضاً مع جريمة اغتيال مراسلة "الجزيرة" الصحافية شيرين أنطون أبو عاقلة، بالإعدام العمد أثناء تغطيتها للعدوان الإسرائيلي على مُخيم جنين، يوم الأربعاء في 11 أيار/مايو 2022، واستهداف الصحافيين لمنع كشف همجية المحتل.
والادّعاء زوراً بأن مُسلحين فلسطينيين هم من أطلقوا الرصاص باتجاه الصحافيين قبل مُحاولات نفي إطلاق الرصاص من قبل جنود الاحتلال، وبعدها ثبوت أن الرصاصة التي أُطلقت هي من بندقية M4 صناعة أميركية، ويستخدمها جنود الاحتلال الذي حاول التهرّب بأن القتل لم يكن عمداً.
جرائم مُتعددة يُمارسها الاحتلال عبر عملائه وأدواته لتحقيق غايته باستمرار احتلال فلسطين وطرد ما تبقّى من أهلها، فوق أرضها الصامدين وتدمير المُقدسات الإسلامية والمسيحية والعمل على إقامة دولة يهودية.
بعد تدنيس وزير حكومة الاحتلال آرييل شارون باحات المسجد الأقصى في القدس المُحتلّة، يوم الخميس في 28 أيلول/سبتمبر 2000، اندلعت "انتفاضة الأقصى" – "الانتفاضة الثانية".
وقد شهدت نقطة تحوّل هامّة في مشهد حمل الكثير من الدلالات والمعاني، باستشهاد الفتى محمّد الدُرّة، وهو في حُضن والده جمال، ليكون شاهداً على وحشية الاحتلال بالقتل العمد وبدمٍ باردٍ، ولأبٍ حاول افتداء ابنه، لكنّه استشهد بين يديه.
لم تكن جريمة اغتيال محمّد الدُرّة، إلّا أنموذجاً عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي المُتواصلة ضد أبناء الشعب الفلسطيني، بينما تمكّنت عدسات الكاميرا من رصده وتصويره، والكثير بقي بعيداً عن التصوير.
أبصر محمد الدُرّة النور، يوم الخميس في 18 شباط/فبراير 1988، خلال "الانتفاضة الأولى" - "انتفاضة الحجارة"، في مُخيّم البريج للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزّة، ضمن أسرة مُؤلّفة من 9 أفراد (الوالد جمال، الأم أمال، و7 أولاد: 5 صبيان وبنتان).
رضع من والدته أمال، حليب النضال والفداء والتضحية من أجل فلسطين، وكان يتابع تعليمه في الصف الخامس الابتدائي في "مدرسة ذكور البريج الابتدائية".
يوم الإثنين في 30 أيلول/سبتمبر 2000، ارتفعت وتيرة المُواجهات ضد الاحتلال الإسرائيلي، فلم يستطع الأب جمال التوجّه إلى مكان عمله، كما لم يتمكّن ابنه محمد من الذهاب إلى المدرسة كالمُعتاد، فقرّر الوالد الذهاب إلى مزاد للسيارات، واصطحب معه نجله محمد لشراء سيارة من نوع جيب.
بعد زيارة المزاد، استقلَّ جمال وابنه محمد سيارة للعودة إلى المنزل، لكن ما أنْ وصلا إلى مُفترق (نتساريم) - عند تقاطع شارع صلاح الدين، المُؤدّي إلى مدينة غزّة، لم يستطيعا العبور بسبب غزارة الرصاص الذي كان يُطلقه جنود الاحتلال الإسرائيلي باتجاه الفلسطينيين الغاضبين.
اغتيال بدمٍ بارد
ترجّل جمال ونجله محمد من السيارة، واحتميا خلف برميل إسمنتي، في ذلك الحين حَضَرَ عدد من المُصوّرين، والتقطوا مشاهد للابن ووالده الذي كان يحتضنه بقوّة، خوفاً من أنْ تطاله رصاصات الاحتلال.
لحظاتٌ مرّت... ارتفع خلالها زخم الرصاص، وعلا معها نحيب محمد، وبدا الخوف على جمال، الذي تأبّط ابنه بيد، وأخذ يُلوّح باليد الأخرى لجنود الاحتلال الذين كانوا يُواصلون إطلاق النار، إشارة لهم من أجل التوقّف، لكن دون جدوى، فأصابت محمد رصاصات عدّة، منها في بطنه، فارتمى الفتى على ساقَيْ أبيه قبل أنْ يستشهد، وهو يرفرف كالطير بين ذراعي والده، الذي أُصيب برصاصات عدّة.
كانت عدسة المُصوّر الفلسطيني في القناة الفرنسية "فرانس 2" طلال أبو رحمة، ترصد المشهد، وتلتقط اللحظة الحاسمة التي وقعت فيها الجريمة.
اهتزَّ العالم للمشهد، الذي لم يمرّ بشكل عابر، فالقاتل مُحتلٌّ غاصبٌ، حاقدٌ، انتهك المُقدّسات وحرمة البيوت، وكرامة الإنسان، والضحيّة طفل فلسطيني في عمر الورود.
ضجَّ العالم، وانتفض أصحاب الضمائر، واحتدم الغضب في قلوب الفلسطينيين، فالتهبت نيران الانتفاضة، وتأجّجت مشاعر الشجب والإدانة ضد الاحتلال في العالم أجمع، وطالت أصداء الجريمة داخل الكيان الإسرائيلي، ما أثار الذعر لديه، فحاول إخفاءها من خلال التشكيك بصحة فيلم الجريمة.
رغم الخسارة الفادحة للأسرة المنكوبة، لكنّها أصرّتْ على أنْ تُواجه الاحتلال مُجدّداً، فلملمت آلام الفراق والحزن، وأنجبت والدته أمال طفلاً جديداً، أبصر النور يوم الجمعة في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2002، أطلقت عليه اسم محمد، تخليداً لاسم شقيقه الشهيد، الذي يشبهه كثيراً، وبذلك خلّدت العائلة اسم الشهيد الرمز.
كسرت أمال عزيمة الاحتلال، فوضعت بعد ذلك 3 أطفال، هم: رقية، براءة ومحمود.
بذلك أثبتت أنّ الشعب الفلسطيني الذي اعتاد على تقديم القرابين من أجل الوطن، سيستمر في مُواجهة الاحتلال حتى تحقيق النصر.
تجسّد استشهاد محمد الدرّة، في تخليد الفلسطينيين لشهدائهم، من خلال إصرارهم على إطلاق أسمائهم على مواليدهم الجُدُد، وأيضاً في إنجاب الأطفال، ليثبتوا للاحتلال أنّ الأرحام التي أنجبت هؤلاء الشهداء لن تعجز عن إنجاب غيرهم، حتى يتحقّق التحرير والنصر.
من جهته، استعاد الوالد جمال الدُرَّة في كتابي "فرسان فلسطين"، المشهد ذاته عن اللحظات الأليمة، وهو لا يملّ ولا يكلّ من إعادة ذلك، طالما أنّ "الهدف كشف الجريمة الإسرائيلية، ونيل حقّي وحق إبني من الجُناة، وفضح الادّعاءات الإسرائيلية الزائفة بأنّ ابني الشهيد حَيٌّ يُرزق، وأنّ الجريمة التي وقعت، مرّة يقولون بأنّها بأيدي الشرطة الفلسطينية، وأخرى بأنّ الفيديو "مُفبرك"، وفي ثالثة ينفون ذلك "جُملة وتفصيلاً".