التاريخ يصدم دولة الاحتلال في كل مرة يتم فتح صندوقه فيها، فبالعودة للنقاش، الأسبوع الماضي، حول تسجيل أريحا على القائمة التمثيلية للتراث المادي للبشرية فإن احتجاج دولة الاحتلال يكشف حجم الخيبة والهزيمة التي منيت بها الرواية الصهيونية مقابل صدق ونُبل الرواية الفلسطينية المسنودة بكل الأدلة والبراهين، ودليل آخر على كل ما يقوله علماء الآثار حتى أولئك الذين جاؤوا بواعز الدفاع عن الرواية الصهيونية أن لا شيء في البلاد يقول، إن المستعمرين كانت لهم حضارة هنا ولا حتى حجر واحد. العالم مرة أخرى يوجه صفعة مريرة لكل أكاذيب الصهيونية دون صراخ ودون جعجعة.
من حيث المبدأ فإن دولة الاحتلال لا تريد أي إنجاز لفلسطين حتى لو كان معنوياً، لأن مثل هذا الإنجاز يعني تظهير الموضوع الفلسطيني وربط ما تم إنجازه بالواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني بسبب سياساتها وبالتالي فهو، أي هذا الإنجاز يعتبر انتصاراً على هذه السياسات حتى لو كانت مثل هذه الإشارات بعيدة ولا يتم ربطها بشكل مباشر. فالانتصار الفلسطيني مهما صغر حجمه يظل مهماً في سياق الصراع مع الاحتلال ومحاولته إعاقة حياة الفلسطينيين وتحويلها إلى جحيم. لذلك فإن الإنجاز الفلسطيني يعني ضمناً وبشكل علني وواضح في نفس الآن هزيمة لدولة الاحتلال لأنها لم تستطع أن تمنع الفلسطينيين من مواصلة الحياة.
وبعبارة مختلفة فإن جوهر ذلك هو أن ما تقوم به دولة الاحتلال هو حرب شاملة علينا، حرب لا تتوقف عند حدود ولا تعرف زمناً محدداً. فهي تنطلق في كل الاتجاهات وفي كل الأماكن لا تترك ساحة ولا عاصمة ولا برلماناً ولا لجنة دولية ولا ممرات حكومية ولا ساحات تظاهرات ولا مؤسسة دولية ولا إقليمية إلا تتخذ منها ساحة لمواصلة محاولتها محو وإزالة الشعب الفلسطيني والتأكيد على عدم ذكره وعدم التضامن معه.
إن القصد من الحرب الشاملة بالأساس هو التغطية على عورات المشروع الصهيوني وعدم كشف زيفه. فببساطة الإنجاز الفلسطيني يعني تسليط الضوء على مقاصد هذا المشروع ولفت انتباه العالم إلى حقيقته.
إن غايات هذا المشروع هي محو وإزالة الشعب الفلسطيني. محوه بالمعني الكامل أي يصبح نسياً منسياً، مجرد شعب صدف أن كان في هذه البقعة الجغرافية دون ربط بينه وبينها ولكن لصدفة ما تم ذلك، ثم ذهب، أي هذا الشعب، في حال سبيله. اندمج مع محيطه العربي الذي هو أصله أو ذاب في المنافي البعيدة ومات منه من مات واندثر منه من اندثر. ولا بأس لو قام المستعمرون الجدد بالتذكير ببعض مآثر هذا الشعب من باب أن الحضارة الغربية تطفح بالتسامح واحترام الآخرين. أليس هذا ما تفعله حليفة إسرائيل الأولى مع سكان أميركا الأصلانيين. هذه ثقافة استعمار بامتياز.
إن جوهر المشروع الصهيوني قائم على إزالة الشعب الفلسطيني وما المقولات الكثيرة التي ترددت في سياق الصراع مثل «أرض أكثر وشعب أقل» و»أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» و»لا شيء اسمه شعب فلسطيني» و»يموت الكبار وينسى الصغار»، كل هذه المقولات ما هي إلا ترجمة للبحث النهم عن اختفاء الشعب الفلسطيني.
ألم يكن رابين يحلم أن يصحو فيجد أن غزة قد ابتلعها البحر. والبحر لم يبتلع غزة كما لم تخف عكا من البحر، ولم تندثر ذاكراتنا في رمال صحارى المنفى بقينا مثل المستحيل على صدورهم كما يقول توفيق زياد، لم نذهب إلى أي مكان، لأنه لا مكان آخر لنا إلا فلسطين ولا نريد غيرها. عرفات قال مرة لمذيعة استفزته بفكرة المنفى، إن حجراً من فلسطين يساوي العالم كله. وكان يقصد هذا ويصدقه كما يصدقه كل فلسطيني لا انتقاصاً من العالم، ولكن لأن فلسطين فعلاً كذلك.
من هنا، إن حرب دولة الاحتلال علينا لم تنته بالنكبة إذ سعت إلى مواصلة عمليات الإبادة، ولم تتوقف آلة القتل والتشريد طوال الفترة التي تلت قيامها وتصاعدت دائماً وصولاً إلى تهجير المزيد من السكان خلال النكسة ومواصلة هدم البيوت وطرد السكان.
من هنا، فإن القصة ليست احتجاجاً عابراً على إجراء فني تقوم به منظمة دولية إذ هو في الحقيقة مواصلة حرب الإبادة والمحو والإزالة والإحلال التي تمارسها دولة الاحتلال. لأن المقصود هو نفي الشعب الفلسطيني خارج متن أي سردية عن المنطقة ومنعه من التعبير عن نفسه وعن تاريخه ليس فقط عن تطلعاته وعن مستقبله. يجب أن يمنع الشعب الفلسطيني من القيام بكل ذلك. عليه أن يقبل بنفيه الطوعي وبإسقاطه بشكل كامل من كتب التاريخ وعدم ذكره في الجغرافيا ولا في القانون والحقوق، كما أن عليه أن يعيد تفسير فهمه للدين ولسير الأنبياء بما يتوافق مع رغبات المشروع الصهيوني.
لذلك فإن ملاحقة كل شيء متعلق بفلسطين هو دليل آخر أيضاً ليس على بشاعة المشروع الاستعماري بل أيضاً على فشله في تحقيق مخططاته.
ببساطة، فإن دولة الاحتلال في كل مرة تحتج فيها على إنجاز آخر للجهود الفلسطينية لتعزيز الرواية الوطنية وتأكيد السرد التاريخي الفلسطيني تؤكد أيضاً أن مشروعها لمحونا لم ينجح وأن، جهودها لرمينا ونفينا خارج تخوم التاريخ لم تؤت ثمارها، وأن مجرد وجودنا ومجرد نضالنا بصرف النظر عن وسائله وعن مدى تحقيقه لتطلعاته الكاملة، كل ذلك هو دليل آخر على أن المشروع الصهيوني لم ينجح وإننا بقينا رغم كل المؤامرات ورغم كل المذابح، ولم ننس بل أي طفل صغير فلسطيني يمكن له أن يروى لصحافي مستشرق كل ما جري في دير ياسين بعد خمسة وسبعين عاماً من وقوعها المأساوي.
هذا شعب يريد أن يتذكر دائماً وماذا يمكن لدولة الاحتلال أن تفعل مع شعب يصر على الذاكرة ولا يبحث عن النسيان.