قد يستغرب البعض أن تكون النتيجة مقدمةً للحديث في مستقبل المشروع الإسرائيلي في القدس، فيبدأ الكلام هنا من نقطة الحكم على هذا المشروع بالفشل الحتمي. ولكن الحقيقة التي ينبغي استيعابها في مقدمة الحديث في هذا السياق هي أن المؤرخين يجمعون على أن قوانين التاريخ لا تتبدل، وما دام هناك مشروع مصادم لقوانين التاريخ فإنه لا يمكن أن يستمر أو يتطور، ولا بد أن يطرأ عليه تغيير جذري يتمثل إما في سقوطه أو تغيير هويته، وكلتا الحالتين تعنيان نهاية المشروع فعليا، وهذه هي الحال في المشروع الإسرائيلي في القدس.
ونركز هنا على القدس بوصفها بؤرةً أساسيةً لها خصوصيتها وطبيعتها التي تختلف عن نواح أخرى في المشروع الذي بدأ في نهايات القرن 19 ليتوج بتأسيس إسرائيل عام 1948، ويتطور بعد ذلك إلى أن وصل ذروة قوته في ثمانينيات القرن الماضي، حين كانت الدبابات الإسرائيلية تدخل العاصمة اللبنانية بيروت بكل سهولة؛ ليبدأ بعدها مواجهة التحديات الوجودية التي أوصلته إلى الأزمة التي يعيشها اليوم.
القدس في قلب المشروع الإسرائيلي
بدايةً، ينبغي توضيح أن القدس تعد في المشروع الإسرائيلي من الناحية النظرية حجر الرحى الذي تدور حوله فكرة الوطن القومي ليهود العالم؛ فالحركة الصهيونية التي أنشأت إسرائيل ابتداء أخذت اسمها من اسم جبل صهيون في القدس، والنشيد الوطني لإسرائيل -الذي كتب عام 1878 قبل إنشائها بـ70 عامًا- يختتم بكلمة "القدس". لا غرابة بالتالي من أن تكون القدس محل إجماع لدى مختلف أطياف المجتمع الإسرائيلي، سواء من الناحية الدينية لدى التيارات المتدينة، أو من الناحية الوطنية التاريخية لدى التيارات العلمانية.
لكن وجود القدس في قلب المشروع الإسرائيلي لا يعني بالضرورة نجاح إسرائيل في ترجمة مركزيتها عمليًا على الأرض أو في تغيير طبيعتها؛ ذلك أن مشروع الحركة الصهيونية في أساسه قام على تصور غير صحيح مفاده أن تلك الأرض (فلسطين) فارغة أصلا من السكان، وهو ما تبين عدم صحته عندما بدأ الرواد الأوائل لهذا المشروع استكشاف أرض فلسطين وفهم طبيعتها وإمكانات إقامة وطن قومي يهودي فيها؛ ليتبين لهم لاحقا أنها مسكونة بتاريخٍ وحضارةٍ عريقةٍ وضاربةٍ في العمق، وذلك ما أدى بجابوتنسكي في الرواية التاريخية الشهيرة أواخر القرن 19 إلى إرسال برقيةٍ لقادته في الحركة الصهيونية تصف فلسطين بالقول "العروس جميلة لكنها متزوجة من رجل آخر".
الأمر نفسه ينطبق وبشكل أكبر وأكثر وضوحا على مدينة القدس؛ فالقدس لم تكن يوما خاليةً من السكان الأصليين، وحتى عندما كانت تتعرض للغزو كانت تبقى في مجملها ضمن المجموعات البشرية نفسها التي سكنتها دائمًا، وبقيت صبغتها العربية ثابتة عبر التاريخ.
فشل التطهير العرقي
من الناحية التاريخية، لم يكن بإمكان إسرائيل أن تقوم كما تخيلها رواد المشروع الصهيوني الأوائل إلا بأسلوب واحد، وهو الإبادة الجماعية والتامة للفلسطينيين. وفي الحقيقة، لا توجد تجربة ناجحة نسبيًا في التاريخ الإنساني بهذا المفهوم إلا تجربة الاستعمار الأوروبي لأميركا الشمالية وأستراليا، حيث لا يمكن لشعب أن يزيح شعبا كاملا من الأرض إلا بمحوه حرفيًا كما فعل الأوروبيون مع السكان الأصليين في أميركا الشمالية وفي أستراليا بين القرنين 16 و18، وهذا الأمر لم يعد ممكنًا فعليًا خلال القرنين 19 و20 مع التغيرات الاجتماعية والمفاهيمية التي مرت بها الإنسانية مع الثورة الصناعية.
بمعنى آخر، يمكن القول إن إسرائيل بالمفهوم الذي تخيله رواد الحركة الصهيونية قامت في الزمن الخطأ، لأنها أرادت أن تقوم في القرن 20 بمفاهيم القرن 16، وهذا غير منطقي. ولذلك، فإن حركة التطهير العرقي التي قامت بها العصابات الصهيونية في فلسطين خلال النكبة لم تكن كافيةً لتفريغ الأرض تمامًا من السكان، وأثبتت هذه العملية فشلها في تفريغ كامل الأراضي الفلسطينية من السكان الأصليين؛ فبقي المواطنون الفلسطينيون المعروفون اليوم باسم "عرب الداخل" أو "فلسطينيي الداخل" ليشكلوا 20% من مجموع السكان في إسرائيل، وفشلت إسرائيل في تغيير هويتهم بالكامل، وتحولوا مع الزمن إلى صداع مزمن لإسرائيل، وتبين ذلك في أحداث عام 2021 في مناطق الخط الأخضر، التي انخرط فيها الفلسطينيون من حملة الجنسية الإسرائيلية في مواجهةٍ عنيفةٍ مع حكومة الاحتلال ومستوطنيها.
على صعيد آخر، عندما قامت إسرائيل كانت تحتاج القدس لتحصل على الشرعية الدينية والوطنية لدى المجتمعات اليهودية حول العالم، وتتمكن بذلك من إقناعهم بالهجرة إليها، لكنها فشلت غداة إنشائها عام 1948 في الحصول على القدس كاملة، فاكتفت بالقسم الغربي من المدينة، الذي لم يكن يحتوي على أي موقع من المواقع الدينية المقدسة، ولكن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة آنذاك حرصت على إعلان أن عاصمتها القدس رغم تفوق تل أبيب عليها من الناحية الاقتصادية والصناعية والاجتماعية، خاصة أن القدس تقع في قلب منطقة الصراع وعلى حدود خط الهدنة مباشرةً. وحين حانت الفرصة لإسرائيل لاحتلال شرقي القدس وضم كافة المناطق ذات الأهمية الدينية لم تنتظر لحظةً واحدةً، وتمكن جيشها يوم السابع من يونيو/حزيران 1967 من اقتحام شرقي القدس واحتلال كافة الأماكن المقدسة وإحكام السيطرة على المدينة بالكامل.
التظاهر بعدم وجود الفلسطينيين
ورغم أن حلم "أرض بلا شعب" كان منتهيًا بالفعل، فإن إسرائيل أصرت على التعامل مع شرقي القدس بالمنطق نفسه، فأعلنت ضم الأرض من دون السكان، واعتبرت السكان مجرد مقيمين أجانب في المدينة؛ وذلك لأنها باختصار لم تكن قادرةً في ذلك الوقت على تنفيذ حلم الإبادة الجماعية مثل أميركا وأستراليا في القرن 16، ولا حتى كانت قادرة على تنفيذ عملية التطهير العرقي نفسها التي حدثت في نكبة عام 1948؛ فاضطرت للجوء لأسلوب إهمال وجود السكان الفلسطينيين في القدس، محاولة تخيل واقع غير موجود، في تصرف مشابه لتصرف الطفل الذي يغمض عينيه عند الخوف ظانا بذلك أن ما يخشاه غير موجود.
ولتطبيق هذه الرؤية، لجأت إسرائيل إلى الضغط على المقدسيين بإجراءات سحب الهويات ومنع التوسع العمراني وغيرها من الإجراءات التي هدفت إلى دفعهم لمغادرة المدينة طوعًا في النهاية باعتبار ذلك الحل الوحيد لمعضلة وجودهم في القدس. والغريب أنها تصرفت مع القدس على أساس أنها نجحت في طرد الفلسطينيين منها بالفعل! ولذلك فإنها منذ اللحظة الأولى لاحتلال شرقي القدس جمعت قسمي المدينة معا في كافة إحصاءاتها لتقنع نفسها بأن عدد السكان اليهود في بلدية القدس 3 أضعاف السكان الفلسطينيين، بما يوحي بأن القدس مدينة يهودية، وتناست أن الإحصاءات المتعلقة بشرقي القدس لا زالت حتى اليوم تعطي الأفضلية العددية بشكل واضح للفلسطينيين الذين لا زالوا يشكلون الأغلبية الساحقة فيها، لا سيما في البلدة القديمة وحول المسجد الأقصى المبارك، أي في قلب المدينة التاريخية التي تعد قلب المشروع الإسرائيلي من النواحي الدينية والقومية والتاريخية.
في الوقت نفسه، لجأت إسرائيل إلى التمييز في الخدمات بشكل واضح بين شرق المدينة وغربها، وتناست أن شرقي القدس مرتبط بشكل عضوي بالمحيط الفلسطيني في الضفة الغربية ولا يمكن قطعها عنه؛ فأدت هذه السياسة إلى تثبيت واقع أن القدس في الحقيقة مدينتان اثنتان وإن ادعت إسرائيل أنها مدينة واحدة، وتحولت منطقة شرقي القدس في الحقيقة إلى خاصرة هشة وضعيفة جدًّا لإسرائيل، فأغلب عمليات التسلل التي أدت إلى عمليات مسلحةٍ في قلب مناطق الخط الأخضر مرت بالقدس.
فشل فصل القدس عن محيطها
عندما حاولت إسرائيل وقف ذلك ببناء الجدار العازل عام 2003، انتقلت الأحداث إلى مرحلةٍ جديدةٍ انطلقت فيها العمليات من القدس نفسها ومن المقدسيين أنفسهم، وذلك ببساطة لأن التجربة أثبتت أنه لا يمكن فصل المدينة عن محيطها وواقعها، كما لا يمكن إهمال أن المقدسيين الفلسطينيين الذين ليس لديهم أي انتماء قانوني لهذه الدولة لا زالوا الأغلبية في القسم الشرقي من القدس، بل إن نسبتهم تكاد تصل إلى 40% من مجموع السكان في شطري المدينة كلها. وهو ما يشير بوضوح إلى فشل مشروع ضم الأرض من دون ضم السكان الذي تم عام 1967. كما أن كل ما مر به الفلسطينيون في القدس على مدار 5 عقود لم يكن يؤدي في النهاية إلا إلى انفجار المجتمع المقدسي برمته كما حصل في انتفاضة الأقصى عام 2000، وهبة القدس عام 2015، وكل ما لحقها من أحداث في 2017، و2019، و2021.
والمحصلة، أن المشروع الإسرائيلي في القدس لا يملك أي أفق، ولا يمكن أن ينجح، بل إن دعوات اليمين المتطرف في إسرائيل لتكرار أحداث النكبة لن تصلح في هذا الوقت وليست أكثر من أوهام، فما كان يمكن أن يصلح بالأمس لا يمكن أن يصلح اليوم، ومن يعش في حلم طويل فلا بد من أن يأتي يوم يستيقظ فيه على واقع يختلف تماما عما كان يحلم به، وعند ذلك لن تجد إسرائيل بدًّا من أن تفعل في القدس ما فعلته سابقا في غزة؛ فلا تجد أمامها إلا الانسحاب من شرقي القدس على الأقل بأي شكل لإنقاذ وجودها نفسه.