يتعزز خلال "عيد العرش" الصراع على هوية إسرائيل وطريقها ومستقبلها، وتغدو الأجواء أكثر احتقاناً مع الاقتراب من الحسم.
يكتب قضاة المحكمة العليا قراراتهم بشأن "حجة المعقولية" و"قانون العزل"، ويوضح نتنياهو ووزراؤه أنه من الممكن ألاّ يلتزموا قرارَ المحكمة العليا، وفي خضم زيارة مذلة تقريباً في الولايات المتحدة، تظهر التوقعات الجميلة بشأن اختراق سريع في العلاقات مع السعودية، بالإضافة إلى المواجهات بين تنظيم "الرأس اليهودي" والمحتجين بسبب صلاة كانت تفرض فصلاً بين النساء والرجال في الحيز العام.
وفي الوقت نفسه، يوجد مجرم من الدرجة الأولى في أوروبا، يتحدث بصوته من داخل السجن عن فساد نتنياهو، ولو حدث هذا في بريطانيا أو ألمانيا أو الدول الإسكندنافية، لَأدى إلى استقالته، أما عندنا، فكل شيء يختفي بسبب كثرة الأحداث.
وأخيراً، فقد وصل القتل في المجتمع العربي إلى نقاط ذروة جديدة. إن حكومة الفشل تقود إسرائيل إلى الهاوية، وفي طريقها، تحطُم الاقتصاد والأمن والعلاقات مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى التكاتف الداخلي الذي أنقذنا قبل نحو 50 عاماً، وكل ما يقف في طريقها.
سأحاول أن أسلط الضوء على 3 نقاط مهمة أمامنا:
إنهم يرفضون الامتثال للمحكمة العليا؟
يجب ألاّ نتوهم، فالانقلاب الدستوري لا يزال يتقدم، ورفْضُ الامتثال لقرارات المحكمة العليا هو رصاصة في رأس الديمقراطية، وإذا قبلنا بهذا فإن إسرائيل ستتحول إلى دولة عالم ثالث، يكون فيها الامتثال لسُلطة القانون وضعاً غير طبيعي، بل سيكون "كل عنيف هو رجل". هذا هو هدف نتنياهو، وعلينا منعه من الوصول إليه.
إن النية المعلنة بعدم الامتثال تحوّل قرارات المحكمة العليا في مجال حجة المعقولية، وأيضاً العزل، ولجنة اختيار القضاة، إلى مصيرية. إنها انتصار الحرية أو "لحظة انتصار للنازية" في تاريخنا.
يؤمن نتنياهو وعصابته بأنه في حال توقفوا عن الامتثال لقرارات المحكمة العليا ولم يحدث أي شيء، فإن الجميع؛ المواطنين، والإعلام أيضاً، الذي يخطئ بعدم أخذ موقف، سيعتادون جميعاً، وكذلك حراس البوابة، وبعدهم ستعتاد المحكمة العليا على عدم وجود خيارات أُخرى، فهي، كما يقال، لا تملك المال ولا السيف، وليس لديها إلاّ نحن - المحتجين - الذين نقاتل دفاعاً عن استقلالنا.
ولذلك، يجب القول بوضوح: إن رئيس الحكومة والحكومة الذين لا يمتثلون لقرارات المحكمة العليا هم "حكومة متمردة"، غير شرعية؛ رئيساً وأعضاء، وتضع نفسها فوق القانون. لذلك، سيكون فوق رؤوسهم علم أسود من اللاقانونية الواضحة.
نحن "ديمقراطية تدافع عن نفسها"، وعلينا العمل الآن بالقوة النابعة من حقنا في "الدفاع عن نفسنا".
أنا على قناعة بأن واجب كل قاضٍ في المحكمة العليا، وكل نائب في النيابة العامة، وكل حراس البوابة في قيادات الجيش و"الشاباك" و"الموساد"، وأيضاً رئيس الدولة وزعماء المعارضة، وواجبنا - نحن المواطنين - أن نتحرك بشجاعة وبالطرق القانونية كافة من أجل إحباط هذا الانقلاب.
وأقول لنا، نحن - المحتجين - وأيضاً المواطنين، إن العصيان المدني غير العنيف هو الطريق الصحيح، وقد حان وقته.
لا يمكن لأي إنسان شريف أن يدّعي مستقبلاً أن يافطة "الديكتاتورية قادمة" لم تكُن موجودة عشية عيد العرش سنة 2023، ومكتوبة بخط واضح على الحائط. إن لم ننهض ونتصرف بسرعة، فإن أحداً لن يستطيع التحرُر مستقبلاً من مسؤوليته عن النتيجة.
"يوم الغفران" في تل أبيب
الصلاة التي شهدت فصلاً بين النساء والرجال في المساحات العامة في تل أبيب والمدن العلمانية كانت استفزازات مقصودة لخرق قرار المحكمة العليا، بمبادرة من تنظيم "رأس يهودي"، الذي يسعى للفوضى على طريق تحقيق الدولة التوراتية.
إن الشرطة، بصورة غير مسبوقة، لم تقم بفرض قرار المحكمة العليا، وحولت المسؤولية إلى البلدية، وفي غياب تحرُك الجهات التي يخولها القانون القيام بذلك، فإن قيام المواطنين، سكان المدينة، بإزالة العازل الفاصل بين النساء والرجال يشكّل حالة دفاع عن النفس، ودفاع عن سلطة القانون في الحيز العام الذي يعيشون فيه.
حتى دموع التماسيح بشأن "اليساريون يهاجمون اليهود في يومهم المقدس" بحسب رواية نتنياهو، فإنها ليست إلاّ تحريضاً، فلم يكن أحد يريد القتال، وخصوصاً في "يوم الغفران"، لكن المسؤولين عما حدث هم "رأس يهودي" وقياداته، وليس المحتجين.
من أزالوا السواتر ليسوا أقل يهودية ممن بادروا إلى الاستفزازات، والمؤكَد أنهم وطنيون أكثر كثيراً منهم.
حتى إن الرسالة التي أرسلَتها بعض قيادات الاحتجاجات، وفيها تحفُّظ عما قام به المحتجون، كانت غير ضرورية في اعتقادي، لكن لنذكّر؛ رأيي ليس أكثر أهمية من رأي هؤلاء الذين أرسلوا الرسالة، حتّى إن رأيهم ليس أكثر أهمية من رأي من قاموا بالأمر الصائب، في رأيي، لإحباط هذا الاستفزاز.
إن قوة الاحتجاجات هي بانفتاحها على الآراء وبالتسامح إزاء ما يقوم به الآخر، فتعدُد الوجوه هو مصدر قوّتنا.
أمامنا أهداف مشتركة، وهذه طبيعة الاحتجاجات الشعبية العفوية الواسعة التي حققَت إنجازات غير مسبوقة على مستوى دولي، لكن الذروة لا تزال أمامنا.
علينا ألاّ نتردد حتّى تنتصر قيم وثيقة الاستقلال وسلطة القانون، وحتى نتأكد من أن هذا التهديد لمستقبلنا كأشخاص أحرار قد زال ولا يمكن أن يعود.
السعودية
إن التطبيع مع السعودية مهم لإسرائيل، كبداية لاعتراف دول إسلامية أُخرى وفرصة اقتصادية مثيرة للاهتمام، واعلموا أنها لا تنتظر عند الباب، والطريق إليها ملتوٍ ومعقد ولا يوجد أي ضمان للوصول إليها. أشك في سنة انتخابات أنه من الممكن الحصول على الأغلبية اللازمة في مجلس الشيوخ للمصادقة على "حلف دفاعي" كما يطلب السعوديون، وكذلك في قدرة حكومة نتنياهو الحالية على تقديم أقل ما يمكن مما يطلبه السعوديون والأميركيون في الشأن الفلسطيني.
هناك سخرية تاريخية من حقيقة أنه في الوقت الذي نضج فيه التطبيع مع السعودية، توجد في إسرائيل حكومة غير طبيعية.
أيضاً، موضوع التطبيع شائك أكثر مما يبدو، فالولايات المتحدة لا تستطيع الموافقة على دائرة وقود كاملة على الأراضي السعودية، يتم تفعيلها بيد السعوديين، أيضاً، وجود دائرة كاملة على الأراضي السعودية وبرقابة/ تشغيل أميركي هو خطوة خطرة في حالة تغيير النوايا (بن سلمان يقول بصورة واضحة إذا أصبحت إيران نووية فإن السعودية ستغدو نووية أيضاً) أو في حال تغيير النظام.
سيعمل في المصانع عدد كبير من التقنيين السعوديين، ولن تكون هناك أي مشكلة في طرد الأميركيين وجلب مهندسين من باكستان مكانهم حتى يستطيعوا تفعيل الدائرة بمفردهم.
من الواضح أنه بعد السعودية، فإن تركيا ومصر ستسعيان لمكانة "دولة عتبة نووية" أيضاً كإيران، وهذه ستكون نهاية معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية التي أجّلت على مدار عشرات السنوات انتشار السلاح النووي. هذه مخاطرة غير معقولة للمنطقة والعالم.
وأكثر من هذا كله، فإن الرئيس جو بايدن يعلم جيداً، وأكثر من البقية، أنه يمكن أن يجد نفسه يمنح نتنياهو هدية قيّمة جداً في كانون الثاني 2024، ليجده بعدها بأشهر، وخلال المعركة الانتخابية، يدعم منافسه بصوت مرتفع ولاهث.
الأمس واليوم
مع بداية العام الجديد، 50 عاماً على تلك الحرب [حرب تشرين الأول 1973]، نجد ذاتنا مرة أُخرى أمام خيارات مصيرية، لكن هذه المرة التحدي داخلي، لكنه أيضاً وجودي، ولا يقل عن التحدي الخارجي حينها. وكما حدث حينها، فالقيادة، اليوم أيضاً، عمياء عن الواقع، كما كانت حينها عمياء بسبب أحكام خاطئة وأخطاء حرجة ومصيرية.
وعلى الرغم من ذلك، فقد كان هناك شعور بالمسؤولية الثقيلة، ولم تكن هناك أي دوافع خفية غير مصلحة الدولة.
أما اليوم، فلا أقول الشيء نفسه عمن يقودون الانقلاب الدستوري، وعلى رأسهم رئيس الحكومة، فهُم يقودوننا نحو مسار تدمير داخلي، يمكنهم وقفه وإلغاؤه إلى الأبد، لكنهم لا يقومون بذلك لدوافع غريبة، بعيدة كل البعد عن مصلحة الدولة ومستقبلها.
وكما كان الوضع في السابق، فإن الذين سينقذون الموقف اليوم أيضاً هم المواطنات والمواطنون الشجعان والمصممون، لكن الفَرق أنهم حينها كانوا باللباس العسكري وإصبعهم على الزناد، أما اليوم فهم يرتدون قميصاً عادياً ويحملون علَماً في اليد، ويعلمون حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ولن يقبلوا بأي خيار آخر إلاّ النصر، بصرف النظر عن الثمن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
*رئيس وزراء إسرائيلي أسبق.