المسجد الأقصى: رمزٌ ديني ووطني

image_processing20231006-843-6r57qx.jpg
حجم الخط

بقلم الدكتور وليد الشوملي

 

تبرز أهمية المسجد الأقصى كرمز للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي الشرس وارتباطه بالهوية الفلسطينية في ظل المحاولات الإسرائيلية لتهويد المشهد الطبيعي والثقافي لمدينة القدس. وقد يبدو للوهلة الأولى أن الدفاع عن الأقصى يتسم بطابع ديني محض، ولكن في الحقيقة فإنه يمثل رمزاً وطنياً لكل فئات الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه. وما أن يستشعر الفلسطيني بأي خطر قادم، يهب المسيحيون والمسلمون هبة رجل واحد في الدفاع عنه.


يرى ميشيل فوكو أن المقاومة توجد حينما توجد السلطة التي تمتلك قوة وهيمنة وتخوض صراعات خفية وظاهرة، وبالتالي فإن المقاومة هي رد فعل طبيعي على هيمنة السلطة. أما الحالة الفلسطينية، فتتميز بأن السلطة المهيمنة والمسيطرة هي سلطة غريبة ومحتلة للأرض والبشر والثروات الطبيعية والمياه والأماكن المقدسة وغيرها. وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يكون شكل وطبيعة وهدف المقاومة الفلسطينية هو دحر الاحتلال وبسط السيادة الوطنية الفلسطينية أقلها على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 والتي تتمثل بالضفة الغربية، والشطر الشرقي من مدينة القدس، وقطاع غزة.

ونستطيع القول أن المعركة ضد الاحتلال الإسرائيلي هي معركة ضد استعمار استيطاني وأنها ليست حرباً دينية على المقدسات والأماكن المقدسة، بل أن الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية تشكل رموزاً وطنية وثقافية ودينية وكذلك إرثاً حضارياً وجزءاً من الهوية الفلسطينية. فقد وصف المفكر عزمي بشارة انتفاضة الأقصى عام 2000 بقوله: "ليست معركة التحرر الوطني الفلسطيني حرباً دينية، ولا انتفاضة القدس والأقصى حرباً عقائدية على الرغم من بعدها الديني ورموزها الدينية ... وتكاد لا توجد حرب تحررية دون بعد ديني أو رمزي يضاف إلى دوافع المجاهدين المقاتلين وإلى رموز الوطن والوطنية ... معركة الفلسطينيين هي معركة مستعمَرٍ بمستعمِر ... ليست انتفاضة الأقصى انتفاضة دينية، بل انتفاضة وطنية شاملة اتخذت من الحرم القدسي الشريف رمزاً لها. والأقصى مقدس للمتدينين وغير المتدينين كرمز وطني فلسطيني ، والخلاف مع إسرائيل ليس على قدسيته للمسلمين، بل على احتلاله من قبل إسرائيل".

أما بالنسبة للمخططات الإسرائيلية بشأن تهويد القدس فهي ترتكز على مسارين: المسار الأول يتمثل في طمس آثار معالم القدس العربية والهجوم على الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في المدينة بشتى الوسائل. فقد قامت إسرائيل على سبيل المثال قبل فترة من الزمن بمحاولة فرض ضريبة الأملاك على الكنائس المسيحية في حين أنه لم يحدث منذ زمن الاحتلال العثماني للمدينة أن تم فرض تلك الضريبة على العقارات التابعة للأوقاف الدينية. أما بخصوص الهجمة الشرسة على المسجد الأقصى، فيشهد العالم أجمع الهجمات المسعورة والمتكررة للمستوطنين واقتحامهم لباحاته ومحاولة الاعتداء عليه من قبلهم الذي يقابل دائماً بالتصدي لهم من قبل المرابطين والمرابطات من أبناء شعبنا ، والذين هم على استعداد للتضحية بالغالي والنفيس في الدفاع عن المسجد الأقصى وقبة الصخرة.


فإسرائيل تحاول دائماً أن تصعد من اقتحاماتها المتكررة للمسجد الأقصى، وذلك لتغيير الوضع القائم لكي يتمكن المستوطنون اليهود من الصلاة فيه. كما تقوم السلطات الإسرائيلية بعرقلة عمل دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية وتعطيل مشاريع الصيانة والترميم لمصلى باب الرحمة وكذلك باقي المصليات والجدار الغربي الجنوبي الذي سقطت منه حجارة قبل مدة من الزمن. كما لفتت دائرة الأوقاف الإسلامية إلى أن هناك استهدافاً إسرائيلياً لمنطقة باب الرحمة والمنطقة الشرقية، حيث تشكل تلك المنطقة العنصر الرئيسي ورأس الحربة في تقسيم المكان كي يصبح للمستوطنين الإسرائيليين موطئ قدم ثابت ودائم لإقامة صلواتهم التلمودية بشكل جماعي وعلني في ظل حماية قوات الاحتلال.


أما بخصوص التنقيبات الأثرية فإن الحفريات الكبيرة التي تقوم بها سلطات الاحتلال تشكل خطراً على مباني المسجد الأقصى خاصة في حفر الأنفاق من أسفله تحت ذريعة البحث عن آثار هيكل سليمان المزعوم. والجدير بالذكر أن اسرائيل شرعت خاصة منذ عام 1996 بمشروع أطلقت عليه مشروع "الحوض المقدس" التهويدي الذي يبدأ بحيّ الشيخ جراح شمالاً مروراً بالبلدة القديمة ووصولاً إلى بلدة سلوان التي يدّعون أن مدينة داود كانت قد أقيمت عليها، وانتهاء بسفح جبل المكبر بهدف إضفاء الصفة اليهودية على تلك البقعة الجغرافية. وبالتالي فإن هذا المشروع سيفضي إلى مسح آثار معالم المدينة العربية والإسلامية وخنق البلدة القديمة بالمسارات والأبنية ذات الطابع اليهودي لطمس هوية المدينة وأماكنها المقدسة وأهمها المسجد الأقصى. كما يهدف مشروع الحوض المقدس أيضاً إلى جعل البلدة القديمة في القدس مشابهة في تفاصيلها للوصف التوراتي المزعوم لأورشليم القديمة وفق المعتقدات اليهودية، علماً أن الأبنية المقترحة ذات الطابع اليهودي ستقام على أنقاض آثار يبوسية وإغريقية ورومانية وبيزنطية وعربية، حيث ستبلغ مساحة ذلك الحوض حوالي 15 ألف متر مربع ويحتوي على مبان تحتوي متحفاً تلمودياً يحتوي على آثار مسروقة من الحفريات المحيطة بالأقصى وذلك لترويج الرواية اليهودية. كما تتبع إسرائيل سياسة ممنهجة في تغيير أسماء الأماكن في المدينة لإضفاء الصبغة التوراتية التلمودية عليها. ولن ننسى كيف أن الشباب المقدسي سجل انتصاراً على الاحتلال عندما أذعن هذا الأخير أمام وقفة الصمود البطولية بعدم استخدامهم للبوابات الإلكترونية التي نصبتها سلطات الاحتلال قبل فترة من الزمن أمام المسجد الأقصى لإرغام المصلين الدخول من خلالها إلى المسجد. وقد اضطرت أخيراً سلطات الاحتلال إلى إزالة تلك البوابات مما شكل انتصاراً كبيراً لا للمقدسيين فحسب بل لكافة أبناء الشعب الفلسطيني.


أما المسار الثاني فيتمثل بتلك المخططات الإسرائيلية إزاء القدس على وجه التحديد في طمس الهوية والثقافة الوطنية عن طريق تهويد التعليم وفرض المناهج الإسرائيلية في المدارس العربية في المدينة في محاولة لتشويه التاريخ الفلسطيني بشكل عام وتاريخ المدينة المقدسة على وجه الخصوص، وفرض الرواية اليهودية على الطلاب العرب. ولا يسعنا في هذا المقام إلاّ أن نقف إجلالاً واحتراماً للمدرسين من حملة الهوية الزرقاء الذين نبذوا الإغراءات المادية لتدريس المناهج الإسرائيلية وتمسّكوا بتعليم المناهج الفلسطينية.


وأخيراً نستطيع أن نلخص سمات الحراك المقدسي وصمود مقاومة الشباب في القدس ضد إجراءات الاحتلال الإسرائيلي في القدس والمسجد الأقصى على أنها عفوية وعدم انتمائها لفصيل سياسي معين، مما يضفي عليها صفة الشمولية وإعطائها طابع الحركة الاجتماعية التي تعبر عن وجدان وضمير كل مقدسي وفلسطيني. وقد أضحت تلك المقاومة نمط حياة يومي اعتاد عليه المقدسيون خاصة المرابطون في المسجد الأقصى الذين يتصدون يومياً لكافة أشكال التحركات والاقتحامات ضد المسجد الأقصى سواء من قبل المستوطنين أو من قبل المؤسسة الإسرائيلية الرسمية. ناهيك عن الصمود الأسطوري لسكان البلدة القديمة في القدس ضد سياسات التفريغ والتهجير التي تقوم بها السلطات الإسرائيلية ضدهم.
وخلاصة القول، فإن معركة الدفاع عن القدس وعن مقدساتها الدينية بما فيها المسجد الأقصى تزداد شراسة يوماً بعد يوم في ظل الهجمة الصهيونية المستعرة لمحو التاريخ والجغرافيا بالإضافة إلى الدعم الأمريكي الذي تمثل في الآونة الاخيرة بصفقة القرن وشرعنة المستوطنات مما جعل المعركة في القدس قضية وجود أو فناء.