لم تخلُ خطابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مختلف المنتديات الإقليمية والدولية من اتهام الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها بتكريس النهج الاستعماري التقليدي الذي يسعى إلى استنزاف ثروات الشعوب ومصادرة مواردها الطبيعية.
في خطابه الأخير أمام منتدى "فالداي" الدولي في مدينة سوتشي الروسية الذي عقد بداية الشهر الجاري، أكد بوتين أن العالم يواجه مهمة بناء عالم جديد، وأن ازدهار الغرب نما وتحقق بفعل نهب العالم وتكريس سياسة التنمية غير المتوازنة التي تعود بالفائدة على الدول الكبرى على حساب إفقار الشعوب الأقل شأناً.
ليست هذه المرة الوحيدة التي يتحدث فيها بوتين عن عالم متعدد الأقطاب، إذ كثيراً ما تطرق في خطاباته العديدة إلى مسألة محاربة النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة والقائم على القطبية الأحادية، مقابل نظام جديد تحتل فيه دول قوية مكانة مهمة في الساحة الدولية.
الحديث هذا عن عالم متعدد الأقطاب تبلور بُعيد الحرب الروسية على أوكرانيا أواخر شهر شباط 2022، مع سعي الولايات المتحدة ودول حلف "الناتو" إلى تطويق روسيا ووضعها خارج حسابات النظام الدولي عبر إضعافها وإفقارها وعزلها دولياً.
لكن ما الذي يجعل الرئيس الروسي يتبنى سياسة تغيير النظام العالمي ويقف مع ما يسميه الشعوب المنهوبة في مواجهة السياسات الاستعمارية التي تنتهجها الولايات المتحدة والغرب الأوروبي؟ وهل يتمكن من الصمود والتنافس لتحقيق طموحه حول تطبيق مفهوم العدالة الدولية؟
في الحقيقة تحتاج موسكو إلى خطاب عقلاني يزيد من فرصها ويقوي موقفها أمام الدول المستضعفة تحديداً، خصوصاً وأنها -روسيا- تدرك أن المعركة مع الغرب بحاجة إلى أدوات فعّالة لضبط ميزان القوة العقائدي والعسكري.
في هذا الإطار، يُصوّر بوتين واشنطن والدول الغربية بأنها تحالف الشياطين، ويضع نفسه في خانة الدولة التي تتبنى قيم المساواة وتحقيق العدالة والأمن والاستقرار في المنطقة، ويسعى بقوة لتأمين أكبر حشد دولي يناصره في هذه المعركة.
قبل أوكرانيا كانت روسيا تحارب في سورية وتستبسل بشراسة لتأمين تفوقها في النظام الدولي وحجز مقعد دائم فيه، وكان بوتين يعتقد أن افتعال الغرب صراع جديد في الجبهة الأوكرانية يهدف إلى تبديد القوة الروسية ومنعها من منافسة الولايات المتحدة على قيادة العالم.
لا يخفى على أحد أن لبوتين استراتيجية تستهدف إعادة عظمة وأمجاد روسيا خليفة الاتحاد السوفيتي الذي تفكك عام 1991، وهذا برز في إعادة تحديث ومعالجة ترسانتها العسكرية وبناء شبكة من التحالفات مع دول في القارات الآسيوية والأوروبية والإفريقية.
وثمة شعور وقد يكون صحيحاً أن موسكو إن لم تتحرك وتتفادى مساعي واشنطن لإعادة صياغة العلاقات الدولية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فإنها -روسيا- ستكون في خبر كان، خصوصاً وأن منحى التحرك الأميركي يستهدف تحديداً كلاً من التمددين الصيني والروسي.
في النسخة الحادية عشرة لمؤتمر موسكو للأمن الدولي الذي انعقد قبل أقل من شهرين تقريباً والذي حضره مندوبون من عشرات الدول، دعا بوتين في "منتدى الجيش 2023" الذي سبق المؤتمر المذكور بيوم إلى شراكة مع الدول التي تشاطر بلاده المواقف، وبدا أن موسكو تُفعّل آليات الشراكة على المستويين السياسي والعسكري مع الصين وإيران وكوريا الشمالية.
لا تريد موسكو أن تنحصر علاقاتها الاستراتيجية مع الدول أعلاه فقط، وإنما هناك تحرك واضح على مستوى الدول العربية وتلك التي تقع في الفضاء الأوراسي وكذلك مع الدول الإفريقية، بغية تأمين حشد دولي يُمكّن روسيا من المضي قدماً في الصمود أمام حربها ضد أوكرانيا والتحالف الغربي.
وما يجري حالياً من تسويق روسي حول صد الهجوم الأوكراني الذي خُطط له بالتعاون مع الغرب لاستعادة الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها روسيا، إنما يأتي في سياق تبيان أن السلاح الروسي ماكن ومتطور ويمكن الاعتماد عليه في الحروب.
في النهاية يجوز القول إن روسيا حالها حال الولايات المتحدة الأميركية، تسير وفق مصالحها لتحقيق طموحات دولية، وكل تصريحات بوتين التجميلية والحماسية ضد الغرب تهدف إلى إعادة صياغة شكل التحالفات الدولية.
تدرك روسيا أن المعركة مع الولايات المتحدة لن تعطيها الأفضلية في تسيد النظام العالمي، خصوصاً مع صعود التنين الصيني، لذلك تجد أن أفضل الحلول لتأمين مقعد دائم في هذا النظام هو عبر تحويله إلى متعدد الأقطاب.
تماماً كما هو حال الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، يسعى بوتين إلى وضع بلاده في مرتبة شبه متكافئة من حيث القوة مع الولايات المتحدة. الموضوع أشبه بتقاسم "كعكة" بين قلة من الكبار، مع حفظ الحصص وعدم الاقتراب منها.