عشرُ ساعاتٍ زلزلت إسرائيل، وهزّت الإقليم والعالم

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 


على إسرائيل أن تصدّق ما حلّ بها هذه المرة.
صحيح أنّ ما تراه يفوق كل خيال، وأبعد بكثير من أي «أحلام»، وخارج أي توقّعات، بما في ذلك مقاربات «الذكاء الاصطناعي» التي أسهب بنيامين نتنياهو في شرح أهميتها أمام الأمم المتحدة!
وعلى إسرائيل أن تصدّق هذه المرّة على الأقلّ أنّ جيشها ليس على الدرجة من القوّة التي آمن بها المجتمع الإسرائيلي على مدى عقود متواصلة، وهو «الإيمان» الذي بقي الملاذ الأخير لهذا المجتمع بعد أن لمس مدى الفساد الذي نخر المجتمع السياسي في إسرائيل، وبعد ما وصلت إليه إسرائيل من تصدّع وانقسام واحتراب ما زال يشتدّ على الجبهة السياسية والثقافية، ولكنه يقترب، أو اقترب من الجبهة الميدانية للعنف المباشر.
وعلى إسرائيل أن تصدّق منذ هذه الأيام فصاعداً أن كلمة «الإخفاق» و»الكارثة» و»الشوّاش» أو «الفوضى الشاملة»، وحيث إن هذه الكلمة تنحدر من الكلمة الإنجليزية (chaos) على ما يبدو.. هي الكلمة والكلمات التي لن يجد المجتمع الإسرائيلي بديلاً عنها في وصف حالته، وفي الدلالة على ما انحدر إليه من تردٍّ وما لحق به من عار.
عدّة مئات من المقاتلين الفلسطينيين تعبُر «الجدار» بعد ضربةٍ شديدة الكثافة بالصواريخ «السطحية» تشبه في محاكاتها ضربة «السيطرة» المصرية والسورية في حرب أكتوبر/ تشرين، وفي عبور يحاكي «عبور القناة» آنذاك.
المصادر الإسرائيلية التي كانت تتخبّط أو ما زالت تتخبّط بعد مرور أكثر من أربع ساعات من «العبور» ذكرت أنّ المقاتلين الفلسطينيين من «كتائب القسّام»، ومن فصائل أخرى شاركت في الهجوم قد اقتحموا اثنين وعشرين موقعاً عسكرياً ومستوطنة، بما في ذلك مقر قيادة الجنوب في جيش الاحتلال، وأكبر مجمّع للمدرعات والآليات العسكرية، بما في ذلك الدبابات الثقيلة، والذي أفقد كلّ هذه المواقع، وبالمطلق أيّ قدرة على مجرّد الردّ اليائس، وبدت هذه المواقع والمستوطنات تتساقط موقعاً تلو الآخر، وتمكّن المقاتلون الفلسطينيون من احتلال كل هذه المواقع وتطهيرها، وأسر أعداد كبيرة ممّن كانوا فيها، والاستيلاء على معدّاتها.
زلزالٌ حقيقيّ ضرب إسرائيل، بحيث مادت تحتها أرض الإقليم، ووصلت الارتدادات إلى عواصم العالم كلّه، إلى درجة «أجبرت» الرئيس الأميركي جو بايدن على عقد مؤتمر صحافي على الهواء مباشرة، وفي الهواء «الطلق»، أيضاً!
عشر ساعات قلبت السحر على الساحر، وقلبت كل الموازين. في أربع ساعات فقط ــ أثناء كتابة هذا المقال ــ ارتفع عدد القتلى من 300 أو 350 إلى 600 قتيل، وأظن أن الأعداد مرشحة للارتفاع أكثر.
نحن أمام حصيلة كادت تقترب من خسائر الجيش الإسرائيلي في الأيام الأولى من «حرب أكتوبر»، والتي اعتبرت أكبر حرب عسكرية بعد الحرب العالمية الثانية، وما زالت تدرّس في كلّيات العلوم العسكرية في العالم، فماذا عن حربٍ لم يمضِ على انطلاقها أكثر من أربعين ساعة؟ ونحن نتحدّث عن آلاف الجرحى، وعن «تهجير» أكثر من 70 ألف إسرائيلي من مستوطناتهم في خطّة معلنة عن هذا التهجير؟!
ونحن نتحدّث عن عشرات وعشرات من الأسرى في غضون عدة ساعات فقط، في عملية مذهلة من الإتقان والدقة والتخطيط.
وهنا فإن هذا العدد وهو مذهل ومرتفع بكلّ تأكيد، إلّا أن المقاومة «لن» تعلن عن كل الأرقام، و»لن» تعلن عن نوعية، أو كلّ نوعية الأسرى، لأنّ هذه الورقة هي واحدة من أقوى الأوراق لديها.
هذه حرب أو معركة سيطول الحديث عنها، وستعكف مراكز صنع القرار في إسرائيل والإقليم، وربما العالم على دراستها ومعرفة خباياها لكن أين أخفقت إسرائيل حتى تسنّى لـحركة حماس وشركائها أن يحقّقوا كلّ ما حقّقوه؟
من المؤكّد أن الإخفاق الاستخباري هو الإخفاق الأكبر والأهم، من حيث تأثيره ودلالته على مجريات العملية، وهو إخفاق لا ينفع معه اللوم أو العتاب، لأنه من النوع «الفضيحة»، وهو أقرب إلى فعل العار من فعل الفشل، وهو مُحيّر إلى أبعد الحدود.
إذ كيف لدولة مثل إسرائيل تمتلك أكثر أجهزة الاستخبارات خبرة وكفاءة، ومسخر لها كلّ الإمكانيات المادية واللوجستية، ويعمل بإمرتها آلاف مؤلّفة من المهندسين والخبراء، وكيف لدولة تعتبر نفسها من الدول «الطليعية» في العالم في مجال العلوم «السيبرانية»، وتصدّر للعالم أحدث أجهزة التجسّس، بما فيها «الممنوعة» دولياً.. كيف لدولةٍ على هذه الدرجة من الإمكانيات والقدرات، وعلى أجهزة على هذه الدرجة من التأهيل والكفاءة والدعم، بما فيها دعم كل أجهزة الاستخبارات «الغربية».. كيف لها أن لا «تلحظ» التحضيرات لعملية كانت تحتاج على كل حال إلى إعداد لشهورٍ كاملة، إذا لم نقل لسنوات؟
أليس هذا غريباً وعجيباً ومُحيّراً؟
التفسير الوحيد الذي أراه لهذا «الإخفاق الفضيحة» هو «العمى والعنجهية» التي تسيطر على المنظومة السياسية في إسرائيل.
كيف؟
راهن نتنياهو على مدى سنوات طويلة في التعامل مع القطاع على تكريس الانقسام من زاوية استراتيجية التوجُّه، وراهن على إبقاء القطاع تحت رحمة الاحتلال، وأحياناً بـ»تقليم» أظافر القطاع كلّ ثلاث أو أربع سنوات، وراهن على أنّ الحصار المحكم والخانق سيؤدّي إلى تحوّل حالة المقاومة إلى «سلطة» فاشلة، تحتاج إلى «العون» الإسرائيلي لبقائها على قيد الحياة، ما سيكرّس الانقسام، ويُبقي «حماس» تحت السيطرة والتحكُّم، واعتقدت إسرائيل ــ باستثناء أفيغدور ليبرمان ــ كلها، حكومات و»معارضات» أن هذه الاستراتيجية هي الأصحّ والأدقّ والأفضل والأصوب، وهي المجرّبة التي «أثبتت» نجاعتها.
لكن «حماس»، ومنذ فترة طويلة نسبياً بدأت تفقد قواعدها، وسمعتها، وبدأت تبهَت صورتها، وعجزت عن حلّ مشاكل القطاع، ولم تحرّك إسرائيل ساكناً حيال هذا الوضع.
هنا رأت «حماس» أنه من دون تغيير قواعد اللعبة فإنها ستفقد كلّ شيء، وهي تغامر بفقد شرعيتها بالكامل، وفقد قدرتها على البقاء في الحكم في ظل واقع ومعطيات كهذه، وهنا، أيضاً، دبّت الخلافات في صفوفها، وبدأت قيادات وكوادر كثيرة بالتململ من هذا الواقع، ولذلك هنا رأت «حماس» أن ضربة من هذا النوع، وعلى هذه الدرجة ستغيّر حتماً في كامل المشهد، وكامل معادلة الشرعية، وكامل مسألة الدور والمكانة، وكان لها ذلك حتى الآن.
المعركة ما زالت في بداياتها ــ مع أنّ ما أنجزته «حماس» يبقى كبيراً وهائلاً ــ وإسرائيل لن تهدأ قبل محاولة محو صورتها التي تهشّمت بالكامل.
وإلى هذا لنا عودة.